كتاب عربي 21

فئران تجارب..

طارق أوشن
1300x600
1300x600

تشير بعض الدراسات، التي أجريت بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى تسجيل تفاوت عرقي في عدد الإصابات والوفيات بسبب فيروس كورونا بين البيض والسود من أصل إفريقي. الفيروس القاتل بريء من هذا الانتقاء العنصري فقد أظهر على طول الأسابيع الأخيرة التزاما بعدم التفريق بين الأجناس والأعراق والأغنياء والفقراء والرجال والنساء في الإصابة به أو الوفاة. البيانات الإحصائية تلك مجرد فضح آخر لمظاهر العنصرية الممارسة على الأفراد والدول منذ عقود. خلصت الدراسة أن السبب في التفاوت المسجل مردّه عدم المساواة في الحصول على الرعاية الصحية والفرص الاقتصادية واختلاف جودة النظام المجتمعي. 

كورونا فيروس قاتل لكنه بالمقابل ليس عنصريا

في بدايات ظهور كورونا، وحتى قبل أن يسميه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيروسا صينيا، كانت الأخبار ترد من القارة الأوروبية عن تعرض الجاليات الآسيوية للتمييز والعنصرية والإقصاء. كان مردّ ذلك، الخوف من انتقال المرض إلى مواطني القارة العجوز وكأنه مكون أساسي من جينات "العرق الأصفر". 

مرت الأيام حتى صرنا نسمع من الصين عن حالات وافدة للمصابين وجب عزلها لدرجة أن الأفارقة صاروا هدفا لإجراءات "عنصرية"، كالطرد من المساكن والمنع من دخول المتاجر والحجر التعسفي بالرغم من سلبية التحاليل المخبرية، ووصل الأمر إلى دعوات للطرد على إثر إصابة عدد من أفراد الجالية النيجيرية بالفيروس، الصيني حسب ترامب، وهو ما استدعى احتجاجات رسمية من رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي ومؤسسات أخرى قارية ودولية. 

الولايات المتحدة الأمريكية لم تفوت الفرصة، فكل الأسلحة مشروعة في حربها التجارية المفتوحة مع التنين الأصفر، فأدانت ما اعتبرته "رهابا ضد الأفارقة" وعينها على الشراكة الإفريقية الصينية المتعاظمة. 

وبين اللحظتين سرت كثير من مياه العنصرية المقيتة تحت جسر ما كان يعتبر حتى حين مبادئ إنسانية وعهود ومواثيق واتفاقيات، أسست لتبنيها وإقرارها والسهر على حسن تطبيقها هيئات ومنظمات دولية استهلكت كثيرا من الجهد والمال، وتبين في الأخير أنها مجرد بنايات فرعونية وجيش موظفين بلا فائدة أو فعل ميداني أو تأثير على الأرض يخدم الإنسانية ويحمي الدول والشعوب الأكثر هشاشة في مواجهة النكبات. 

 

عنصرية استوطنت النفوس

في زيارة له إلى مركز البروفيسور ديدييه راوول، سأل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أفراد الطاقم الشاب المشتغل بالمركز عن جنسياتهم ففوجئ بأنهم من خارج قارته الأوروبية العاجزة عن مواجهة الوباء. فمن لبنان وتونس والجزائر وبوركينافاسو والسنغال والمغرب ومالي حجّ هؤلاء ليجدوا أنفسهم في طليعة من توضع عليهم الآمال للوصول إلى دواء ينهي معاناة المصابين أو لقاح يقي البشرية مضاعفات عدو تمكن من العالم وفرض سيطرته وقوانينه على الحياة المجتمعية والاقتصادية المقبلة على انحسار وركود غير مسبوقين. 

شباب مركز ديدييه راوول ليسوا الوحيدين من دول "الهامش" ممن تستعين بهم دول "المركز" في تأمين مواطنيها والرفع من كفاءة منظومتها الصحية، بل نظراؤهم المبتدئون والمخضرمون منتشرون في كل المستشفيات ومراكز الأبحاث، يقبلون بالقليل بعد أن ضاقت بهم السبل في أوطانهم كما حال الآف من الممرضين والأطباء الجزائريين وهم ينتظرون تكرم الدولة الفرنسية بتسوية أوضاعهم نظير استبسالهم في غرف العمليات في مواجهة الفيروس اللعين، وغيرهم كثير في بلدان المهجر يبحثون عن الاعتراف والتقدير. تكتفي دول المهجر حتى الآن ببروفات التصفيق والصفير والتهليل كل يوم من نوافذ شقق ومنازل مواطنيها دعما للأطر الطبية كما يقولون.

العنصرية لن تمنع البشرية من تكثيف جهدها في المواجهة، ولو أنها استوطنت النفوس والمخططات ولا ضمانة أن تلاقي بلدانهم النصيب من الدواء حين اكتشافه بالسهولة واليسر المنتظرين. حرب القرصنة التي استعرت بين دول العالم للحصول على الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعي وغيرها لا تبشر بأي خير قد يعم العالم دون حسابات الربح والخسارة ودون عنصرية مقيتة واستبعاد من الولوج إلى العلاج.

 

العنصرية واقع مرّ يتجرعه الأفراد وتعاني منه الدول، لكن استغلالها السياسوي خطيئة لا تغتفر خصوصا إن صدرت عن دول ومجتمعات تنخرها الظاهرة في أفظع تجلياتها.

 


العقلية الاستعمارية، الفرنسية على الخصوص، لا تبحث في مناطق نفوذها التاريخية إلا عن الأسواق لمنتجاتها أو المواد الأولية لمصانعها أو الفحولة والخصوبة لإنقاذ هرمها السكاني من الاختلال. المستعمرات السابقة مجرد حديقة خلفية لدفن النفايات الكيميائية وإجراء التجارب النووية ولم التجارب على اللقاحات. 

في برنامج تلفزيوني، على قناة إخبارية، كان النقاش يدور حول الدراسات المتعلقة بالوصول إلى لقاح لفيروس كورونا. كان النقاش علميا محضا بين رئيس قسم الطوارئ بمستشفى "باريسي، والمدير العام لمعهد الصحة الوطنية والبحث الطبي بفرنسا، حيث اقترح الأول في سؤال اعتبره "استفزازيا" إمكانية إجراء الدراسة بإفريقيا وتجريب بروتوكول العلاج بها. منطلقات الرجل، على ما يبدو من إطار النقاش، كانت طبية محضة وهو ما تجاهله كثيرون في تعليقهم على الواقعة، باعتبارها نموذجا صارخا للعنصرية الفرنسية. 

المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، التي اتهمها ترامب بالانحياز للصين وحجب عنها المساهمة الأمريكية في ميزانيتها، اعتبر الدعوة "عنصرية ومخزية ومرعبة، وهي من بقايا عهد الاستعمار"، وأعرب عن صدمته من "هذا النوع من الخطابات العنصرية، والمناهضة للتضامن، في الوقت الذي نقول فيه إننا بحاجة إليه". وعلى نهجه بنا كثيرون وجدوا في الحادثة مناسبة لتصفية حساب قديم ومستمر بين فرنسا ودول القارة الأفريقية. 

الدعوة لتجريب اللقاح في إفريقيا ليست عنصرية ما دام حديث الطبيبين له مبرراته العلمية التي قد تساعد في رأيهما بالوصول إلى لقاح تنتظره البشرية في إفريقيا وخارجها، خصوصا وأن الحديث كان في اتجاه التفكير في إطلاق الدراسة بموازاة أخريين بأوروبا وأستراليا.

لكن العنصري في الموضوع كان التحجج بعدم قدرة القارة على توفير اللوازم الطبية ومستلزمات الوقاية من الفيروس، ما يجعلها عرضة لإصابات بعدد كاف لإجراء الدراسة والخروج بخلاصات أدق وأقرب للواقع من دول أخرى لها من الإمكانيات ما يجعل مواطنيها بمنأى عن الإصابة والمرض، وهو ما تكذبه الوقائع على الأرض يوما عن يوم. 

التحالف الدولي يقتضي، والحالة هذه، الدعوة لتمكين القارة وبلدانها من الوسائل الكفيلة بمواجهة الجائحة والاحتراز منها. ربما لا يكون هذا دور الطبيب الباحث عن العلاج. لكن صوته قد يكون مسموعا لدى السياسي، والتخاذل عن الدعوة إليه قد يكون فعلا عنصرية وتمييزا يخالفان قسم أبوقراط. العنصرية الحقيقية هي ترك القارة السمراء، المريضة أصلا بكل الأوبئة، لمواجهة مصير محتوم دون سعي لإسعافها أو حمايتها من الإصابة لتتحول لساحة تجارب مشرعة الأبواب. 

 

لسنا اليوم غير فئران تجارب، فلا دولة أو نظاما يمكنه التباهي باستعداده وقدرته على مواجهة السيناريوهات التي نعيشها أو ننتظرها ولو في حدها الأدنى. تلك هي الحقيقة وما دونها مجرد تفاصيل.

 



الاستنكار الذي خلفته دعوة الطبيب لم يجد له مثيلا في ما بدر من مقدم على قناة إخبارية فرنسية أخرى معلقا على صور للاحتفالية التي نظمتها الصين تكريما لأرواح الآلاف ممن قضوا في حربها ضد كورونا، وهو لا يدري أن صوته مسموع، فسخر من الأمر بالقول: إنهم يدفنون البوكمون. اعتذر المقدم واعتذرت القناة وأوقفته عن الظهور على الشاشة لأسبوع فذاك كفيل بغسل العار الذي لحقها. السخرية من الصينيين لا تثير حفيظة الروح الإنسانية لأنه لا حساب هنا يمكن الركوب عليه وتصفيته مع فرنسا.

العنصرية واقع مرّ يتجرعه الأفراد وتعاني منه الدول، لكن استغلالها السياسوي خطيئة لا تغتفر خصوصا إن صدرت عن دول ومجتمعات تنخرها الظاهرة في أفظع تجلياتها. 

 

إفريقيا صنعت دوما فرحة العالم

لقد سمعنا كثيرا من الأفكار العنصرية الغريبة بدءا بإيطاليا واستنكار أحد ساستها اليمينيين كون الفيروس لا يصيب المهاجرين حتى صارت قوافل الموتى وأعداد المصابين بأعداد لم يعد معها التصنيف العرقي مجديا، مرورا بأمريكا وفرنسا والصين. لكننا لم نسمع أحدا هناك يخرج في عصيان لمنع دفن موتى الفيروس في المقابر، أو برلمان يقترح بناء مدافن بالصحراء لهم، أو فنانين وإعلاميين يدعون إلى طرد العمالة المصابة إلى ذات الصحراء وهي التي تخدش روائح أفرادها "العفنة" طيبة بنات البلد المضيف، أو تجريب اللقاح على السجناء بدل الحض على تنمية البحث العلمي للمساهمة في الوصول إليه أولا قبل التفكير في تجريبه على الأحرار أو الموقوفين. 

وفي الوقت الذي ينتظر فيه العالم من مختبراته أدوية ولقاحا، نهدر الوقت والجهد في الحديث عن فتوى الأزهر بحرمة الإساءة إلى متوفي كورونا لأن الإصابة به ليست لا ذنبا ولا خطيئة، أو التركيز على أخبار منتقاة تشير لأطباء مسلمين توفوا في مواجهة الفيروس أو آخرون يصلون على موتى المسلمين قبل إخراجهم من المستشفيات، أو إطفائي عطس يهود في وجهه لإصابته أو غيرها من الأخبار التي تظهر كم نحن منغلقون على ذواتنا الجغرافية والدينية، في وقت نتهم في الآخر دوما بالتمييز والإقصاء والعنصرية ونحن غارقون فيها حتى النخاع. 

إفريقيا صنعت دوما فرحة العالم في كل المجالات، وبالأخص فرنسا وجيرانها الأوربيين، ولا ضير إن كانت الفرحة الكبرى بالخروج من هذا الكابوس المستمر منذ شهور صناعة إفريقية بالإنتاج، عبر أبنائها الموزعين في مختبرات العالم الغربي، أو بالتجربة كتضحية تعودناها بالاختيار كانت أو بالغصب أو التواطؤ الداخلي والخارجي. 

لسنا اليوم غير فئران تجارب، فلا دولة أو نظاما يمكنه التباهي باستعداده وقدرته على مواجهة السيناريوهات التي نعيشها أو ننتظرها ولو في حدها الأدنى. تلك هي الحقيقة وما دونها مجرد تفاصيل.

التعليقات (0)