أخبار ثقافية

حارس سطح العالم لبثينة العيسى..

تنتمي الرواية الصادرة عن منشورات تكوين والدار العربية للعلوم في طبعة مشتركة إلى أدب الدستوبيا- تكوين مواقع تواصل
تنتمي الرواية الصادرة عن منشورات تكوين والدار العربية للعلوم في طبعة مشتركة إلى أدب الدستوبيا- تكوين مواقع تواصل

اختارت بثينة العيسى في روايتها (حارس سطح العالم) الصادرة في العام الماضي، أن تلعب اللعبة الخطرة، وهي محاورة الروايات العالمية الشهيرة، والتداخل النصي مع شخصياتها وأفكارها، والانطلاق منها لإنتاج نصها الخاص.

 

وتشبه هذه اللعبة في خطورتها، المشي على الحبال العالية من دون السقوط في الشبكة العنكبوتية المنصوبة تحتها.   

 

تنتمي الرواية، الصادرة عن منشورات تكوين، والدار العربية للعلوم، في طبعة مشتركة، إلى أدب الدستوبيا.

 

وتصور عالماً شمولياً يقع زمنياً ما بعد عصر الديموقراطية والعولمة وحرية الوصول إلى المعلومات.

 

وتستدعي الرواية ثلاث روايات عالمية لتكون أعمدة البناء التي تقوم عليها داخل عملية تعالق نصّي تفاعلي.

 

فالرواية تقرأ الروايات الثلاث، وتتفاعل معها بنائياً، وتعتمد عليها في نقل شخصيتها الرئيسة من طور نفسي ومعرفي إلى آخر. 


والروايات الثلاث هي: زوربا لنيكوس كازانتزاكيس، و1948 لجورج أورويل، وفهرنهايت 451 لراي برادبري.

 

وإذا كانت الرواية الأولى منها تنتمي إلى العالم الواقعي، فإن الثانية والثالثة تُعدان نموذجين ساطعين في أدب الدستوبيا.

 

فإلى أي مدى نجحت الرواية في أن تضيف جديداً إلى عالم الدستوبيا الذي صاغته الروايات السابقة، وبيّنت معالمه، ووضعت قوانين العلاقات بين الفرد والسلطة داخله، من النواحي السياسية والاجتماعية والنفسية؟


تشير الرواية صراحة إلى مرجعياتها النصية في الروايات الثلاث، وروايات أخرى تنتمي إلى أدب الأطفال مثل، أليس في بلاد العجائب، وبنوكيو، وعشرات القصص الشعبية الخيالية الموجهة للأطفال، وتمثّل مشتركاً إنسانياً في كل بقاع الأرض.

 

ولا عجب في ذلك لأن حماية المخيلة أحد الثيمات الرئيسة التي يتمحور حولها الصراع في الرواية، بوصف المخيلة مكمن الإبداع الإنساني، والأرض الخصبة التي ينمو فيها الأنسان في طفولته نمواً سلمياً. 


الشخصية الرئيسة في الرواية هو (الرقيب)، وليس له اسم شخصي بمعزل عن مهنته. ومهنته الرقابة على الكتب في مؤسسة رسمية تتبع لدولة يحكمها نظام شمولي، تعمل مؤسساته على إدامة حكم النظام من خلال السيطرة على عقول الأفراد، وإبقاء حدود تفكيرهم ووعيهم عند المستوى السطحي.

 

وتستهدف دائرةُ الرقابة على الكتب، الرواياتِ الداعية إلى حرية التفكير والقول والفعل مثل رواية زوربا، وقصص الأطفال المحفزة للمخيلة مثل أليس في بلاد العجائب، وبنوكيو.

 

ويعمل (الرقيب) على تحديد الكتب التي تحمل مضامين مخالفة لمبادئ النظام الحاكم، وحصرها، تمهيداً لحرقها في عيد وطني سنوي مشهود. 


يخوض (الرقيب) صراعاً داخلياً على امتداد فصول الرواية، وينجم هذا الصراع عن التناقض بين شروط مهنته التي تلزمه بإعمال عقله في المعاني العميقة للكتب وتأويلاتها من جهة، وتعطيل عقله وتنحيته عن التفكير بتلك المعاني والتأثر بها من جهة أخرى.

 

ويخلق منه هذا الصراع شخصية مزدوجة، تمارس، ظاهرياً، مهنتها بالتزام كامل بقوانين الرقابة، ولكنها تستسلم، باطنياً، لأفكار الحرية، والوعي العميق التي تدعو إليها تلك الكتب.

 

وعبر الصراع بين شخصية الرقيب المقيدة بقوانين المؤسسة، وشخصية القارئ الحرة الباحثة عن الحقيقة، تتنامى أحداث الرواية، وتتشابك علاقات الشخصية المزدوجة مع محيطها الأسري، (الزوجة والإبنة). ومع محيطها المهني، (زملاؤه الرقباء السبعة، سكرتير قسم الرقابة، والمدير).

 

ومع محيطها الاجتماعي العام، (بائعة الكتب، وحارس متاهة الكتب، الاختصاصيون في مركز التأهيل)
يحيلنا الصراع الذي تخوضه شخصية (الرقيب) المزدوجة، بأبعاده النفسية والاجتماعية والسياسية، إلى الصراع الذي تخوضه شخصية (ونستون سميث) في رواية ( 1984).

 

ففي الروايتين، تشقى الشخصية بوعيها الفردي المفارق لوعي الجماعة، الجماعة التي نجح النظام الحاكم في تطهيرها من ذاكرتها التاريخية، ورأسمالها الثقافي، ومعجمها اللغوي المعبّر عن وعيها بذاتها وماضيها وحاضرها.

 

وتقاتل الشخصية بكل ما أوتيت من وسائل لتحتفظ باستقلالية وعيها عن آليات الطحن والغسل الجبارة التي يملكها النظام الحاكم لإخضاع الوعي الجمعي لسرديته التاريخية وشرعيته السياسية. 


وتتطابق الروايتان في تصوير أجواء الرعب والقلق والتوتر النفسي التي تصل إلى حد الخوف من التفكير والحلم والتعبيرات العفوية في ملامح الوجه ولغة الجسد.

 

اقرأأيضا : رواية "اسمي سلمى" والمقولات الجاهزة

 

وتصوير وسائل القمع والإرهاب والسيطرة غير المحدودة على الأفراد، التي تمكنت مؤسسات النظام الحاكم من تطوير أدواتها، واستخدامها بفعالية كبيرة، وتغطيتها بمبررات ذكية تجعل المجتمع يتقبلها، ويشجع السلطة على التوسع في استخدامها، بل ويساهم فيها ولو كانت تستهدف أقرب المقربين. 

 

استلّت الرواية خيطاً من الخيوط الكثيفة العميقة التي نسجتها رواية (1984) لعالم الدستوبيا على نحو يصعب مضاهاة متانة نسيجه وتعقيده وفرادته، وهذا الخيط هو خيط الحب؛ ذلك الشعور الذي لا يملك النظام المسيطر أن يمنعه، وعلى الرغم من أنّ النظام المسيطر في رواية (1984) أنشأ وزارة رهيبة لتجريد الحب من معناه، وتحويله إلى نوع من الولاء الهمجي الأعمى لشخص الزعيم، أو الفعل الجنسي الوظيفي الذي يقوم به الأزواج خدمة لأغراض الحزب الحاكم في إنتاج الأطفال، إلا أن ذلك لم يمنع شعور الحب من أن يمتدّ بين (ونستون) والشابة (جوليا).

 

وقد منحتهما علاقة الحب المجرّمة الوعي الضروري، واليقين التام، والشجاعة الكافية، لينضمّا إلى صفوف (الأخوية) المعارضة للنظام.


بنتْ بثينة العيسى روايتها على الحب، بوصفه فعل وعي بالواقع ومقاومة له. لكنها اختارت أن تسلّط الضوء على حب (الرقيب) لابنته الوحيدة، التي يهدّد خيالها الطفولي الخصب، كلّ جهود النظام الحاكم في إنتاج أجيال جديدة من الأفراد، أكثر تصديقاً بسرديته، وأشدّ إيماناً بشرعيته.

 

ويحاول (الرقيب) أن يخفي مظاهر المخيلة الخصبة التي تمتاز بها ابنته عن أقرانها، عن أعين الرقابة المدرسية، لكنه يفشل.

 

وتقع الطفلة في براثن لجان التأهيل الفكري والنفسي، فيحتجزونها ويمنعون أبويها من رؤيتها.


ما يميّز رواية (حارس سطح العالم) بناؤها النفسي القائم على ثيمة الحب، في عالم الدستوبيا الشمولي، الذي يجرّد (الرقيب) من حقه الطبيعي في أن يحبّ ابنته، وأن ينشّئها النشأة السليمة لتكون إنسانة حرة التفكير.

 

وتتميّز الرواية بتصويرها الحالات المتناقضة من المشاعر والأفكار تجاه أفضل الطرق لحماية ابنته من عسف النظام الحاكم.

 

وتصور الرواية مشاعر القلق واللوعة والعجز والتبكيت والوسواس التي تعتريه، وهو حائر في اتخاذ القرار الصحيح في شأن ابنته؛ بين أن يقمع مخيلتها الحرة حماية لها، مع ما يقترن وهذه الحماية من إنمساخ في شخصيتها، أو يتركها طليقة الخيال لتكون إنسانة مستقلة التفكير، مع ما تعرّضها له هذه الحرية من أخطار. 


تقدم الرواية إجابة متسقة مع عالم الدستوبيا، فالخيارات أمام (الرقيب) تؤول كلها إلى نهايات مأساوية، والقرارات التي يتخذها، لا تعدو أن تكون ردود أفعال على أفعال النظام الحاكم.

 

وهو لا يملك إلا انتظار نهايته المحتومة التي كان يستشعرها في كل لحظة من حياته. إن لحظة الوعي التام بالحقيقة، ورؤيتها مجردة، من دون أوهام وآمال مزيفة، يراها ماثلة أمامه في المخطوط الذي كتبته بائعة الكتب.

 

ولا تترك له خياراً غير الارتماء في أحضان الكتب التي طالما حاول حمايتها. لكنها المِحرقة، تضمه إلى أحضانها مع آلاف الكتب التي تمنّى قراءتها.

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم