المجتمع الدولي لم يتوقف عن الحديث حول ضرورة إنهاء الحرب الدائرة في
اليمن، مدفوعاً بمخاوف ذات بعد إنساني، غير أن الحديث يأتي ضمن قوالب لفظية وعبارات روتينية مكررة تصف ما يدور في اليمن منذ بداية الحرب وحتى هذه اللحظة، في ضوء النتائج الكارثية للحرب التي يبدو أنها تأخذ منحى تصعيدياً يكاد يحولها إلى حرب عابرة للحدود بامتياز.
قبل يومين، وبالذات في 21 شباط/ فبراير الذي يؤرخ للذكرى الثامنة انتخاب الرئيس عبد ربه منصور هادي رئيساً انتقالياً للبلاد، أعلن الحوثيون عن
توجيه ضربات صاروخية وبالطيران المسير على منشآت نفطية تابعة لشركة أرامكو في ينبع، غرب المملكة. الناطق باسم التحالف العقيد تركي المالكي أعلن أن الدفاعات
السعودية اعترضت الصواريخ، وليس هناك معرفة دقيقة بشأن ادعاءات
الحوثيين بالوصول إلى الأهداف.
شيئاً فشيئا تتأسس الحرب على معادلة جديدة تقف فيها السعودية طرفاً يدافع عن نفسه من
هجمات لا تكاد تتوقف؛ من جانب الحوثيين الذين تصلهم الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية تباعاً.
بالتأكيد ليس هناك مخازن يمكن أن تضمن استمرار الحوثيين في تنفيذ الهجمات المؤثرة في العمق السعودي بوتيرة مستمرة ومنضبطة ومسيطر عليها، فالأمر يتوقف على نجاح قوارب التهريب (إن لم
تعترضها البوارج الحربية الأمريكية في بحر العرب وخليج عدن) في إيصال مكونات الصواريخ إلى اليمن ليتولى خبراء إيرانيون إعادة تركيبها، وكتابة الأسماء الجديدة الخاصة بالحوثيين، ليظهر الأمر وكأن "مجمعات الصناعات الدفاعية" في صنعاء وصعدة تعمل بشكل منتظم، وهو أمر يتجاوز حدود المنطق بالتأكيد.
قرار الحرب مرتبط بشكل وثيق بالمصالح العائدة على القوى العظمى من استمرار هذه الحرب، خصوصاً أن أهم أطرافها وهما السعودية والإمارات تتسمان بالسخاء في شراء الأسلحة، وتتسولان في هذه المرحلة من دولة مثل ألمانيا إنهاء حظر تصدير السلاح إليهما على خلفية الحرب الدائرة في اليمن، وكأن السبل قد تقطعت بهما، وكأنهما بالفعل تخوضان حرباً لا هوادة فيها في اليمن.
السعودية على ما يبدو مهتمة بالتضامن الدولي معها، والذي من أهم مؤشراته هو
استمرار تدفق الأسلحة إليها من دول مصنعة رئيسة للأسلحة مثل ألمانيا، واستمرارها في ممارسة النفوذ عبر هذه الصفقات السخية لشراء الأسلحة.
ولكي تبدو صديقاً لا يمكن التفريط به، لم تتردد في تكييف حربها الدائرة في اليمن على أنها مهمة تندرج في إطار درء الإرهاب، وهو مصطلح ينصرف في معظمه إلى التنظيمات التي تحتل حربها مقام الأولوية لدى الغرب.
يفترض أن الحرب التي تخوضها السعودية في اليمن موجهة ضد الحوثيين المرتبطين بعدوها الإقليمي المتربص، إيران، ولأنهم أيضاً يشكلون تهديداً خطيراً لأمن المملكة، وهو دافع يمكن أن يتفهمه المجتمع الدولي، وإن كان هذا المجتمع قد أظهر عدم اكتراث حيال الضربات الصاروخية على أكبر منشأة لتصدير النفط في العالم رغم أهميتها للسوق الدولية.
ومع ذلك تصر السعودية على تأكيد رغبتها في استمرار المحادثات مع الحوثيين خلف الأبواب المغلقة. ولم يمكن الهجوم الأخير على ينبع مناسبة لتعلن أنها لم تعد معنية بإجراء المحادثات مع الحوثيين، بل إنها سربت لوكالة رويترز ما يفيد بأن فصائل يمنية تقف خلف التصعيد العسكري الأخير، مدفوعة (أي هذه الفصائل) بمخاوف من صفقة سياسية سعودية محتملة مع الحوثيين.
لذا فإن أسوأ ما أنتجته هذه الحرب حتى اللحظة هي أنها أغلقت الأفق أمام اليمنيين الذين لم يعد بوسعهم أن يتخيلوا صورة بلادهم بعد عدة أشهر، وعما إذا كانت ستخرج من دوامة هذه الحرب أم سيزداد أوار الحرب وطبيعتها وأدواتها وتحالفاتها، وهل سينجو اليمن من التقسيم أم سينتهي إلى التشظي الذي سيولد صراعات لا نهاية لها.
فحين يفكر اللاعبون الإقليميون في إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، فإن من شأن ذلك أن يفتح شهية أطراف عديدة، خصوصاً أن ثمة استحقاقات تاريخية مرتبطة بالشكل الفسيفسائي الذي ساد المشهد اليمني ما قبل 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، وهو التاريخ الذي غادر فيه آخر جندي بريطاني مستعمرة عدن والمحميات المرتبطة بها في جنوب البلاد.
أعتقد أن السعودية فقدت السيطرة على المعركة في اليمن، وتشعر بخيبة أمل كبيرة من الأمريكيين الذين تركوها وحيدة أمام هجمات خطيرة نفذتها إيران باسم الحوثيين على المنشآت النفطية في "بقيق" و"خريص"، وباتت تتسول الغطاء الصاروخي المضاد للهجمات البالستية من دول قليلة الشأن، مثل اليونان ورومانيا وغيرها من الدول التي تحيط بتركيا، وسط استعراض أحمق للنكاية ضد تركيا البلد الشقيق الذي كان يتعين على الرياض أن تبني معه شراكة استراتيجية لمواجهة تحديات من هذا النوع.
على مدى خمس سنوات مضت من زمن الحرب، أحرقت الرياض قوارب النجاة التي كانت تتوفر بكثرة على سفينتها وهي تمخر في لجة الحرب اليمنية.. أحرقت حلفاءها وخيبت آمال الطيف الواسع من اليمنيين الذين تفاءلوا بالتحول الاستراتيجي في الموقف السعودي تجاه بلدهم، والذي وصل حد الحرب لإعادة فرض الاستقرار وإنهاء التمرد والانقلاب.
الوصفة التي أقترحها على السعودية لكي تخرج من حرب اليمن دون ندوب عميقة وتداعيات كارثية على وجودها كدولة رئيسية في المنطقة، هي أن تعيد تعيين أهدافها المشروعة في اليمن، وفي مقدمتها إنهاء المهددات التي تنال من وحدة الدولة اليمنية ومن جوهر نظامها الجمهوري التعددي، وأن تضع أولوية بناء الشراكة طويلة الأمد مع اليمن في مقدمة الأولويات.
وتوجه كهذا يقتضي إعادة الاعتبار للشراكة مع الأطراف اليمنية الوازنة التي تمثل جزء أصيلاً من النظام الانتقالي، وتعكس توافقاَ سياسياً وطنياً حول الثوابت الراسخة، وفي مقدمتها الوحدة والنظام الجمهوري التعددي والشراكة الوطنية.