هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تُظهر التطورات الأخيرة أننا أمام موقف تركي جديد هذه المرة فيما يتعلق بإدلب. فسقف التصريحات التركية في ارتفاع مستمر، بدءاً من تحميل الروس مسؤولية التطورات الميدانية (بعد أن امتنعت عن ذلك طويلاً)، وليس انتهاءً بالتهديد بعملية عسكرية جديدة. وهي تهديدات اقترنت بتعزيزات تركية ضخمة ومتتالية نحو الحدود والداخل السوري رفعت عدد الجنود الأتراك هناك من 1200 إلى حوالي 10 آلاف ونقاط المراقبة التركية من 12 إلى 21، وفق وسائل إعلام تركية.
وقد حمل الميدان رسائل إضافية غير التعزيزات باتجاه النظام وموسكو، على صعيد عمليات المعارضة في شرقي حلب وغربيها، ثم قدرتها المستجدة على إسقاط مروحيات النظام وهو ما تم بدعم من أنقرة على ما يُفهم من سياق تصريحات الرئيس التركي.
تهديد تركيا بعملية عسكرية ضد النظام إن لم يتراجع حتى حدود اتفاق سوتشي (أيلول/ سبتمبر 2018) اقترنت مؤخراً بتحديد مدى زمني هو نهاية شهر شباط/فبراير الجاري. وبالنظر إلى أن النظام مستمر في عملياته العسكرية رغم التحذيرات التركية، ثمة من يرى بأن العملية التركية ضده باتت مسألة وقت، لا سيما وأن اردوغان عاد وقال إن بلاده قد لا تنتظر حتى نهاية الشهر للتحرك وأنها لن تقبل باستمرار حصار نقاط المراقبة خاصتها.
وبالنظر إلى تعقد المشهد الميداني والتوتر السياسي بين أنقرة وموسكو وتعدد الفاعلين إضافة لهما وللنظام، بما في ذلك الولايات المتحدة والناتو وقوات سوريا الديمقراطية وإيران والمجموعات المحسوبة عليها وهيئة تحرير الشام والمجموعات الأخرى، يمكن الحديث عن عدد لا محدود من المسياريوهات المحتملة لتطور الأوضاع، لكننا سنتوقف عند الرئيسة منها فقط.
ما بين روسيا وتركيا في السنوات القليلة الأخيرة مصالح ضخمة تمتد بين الاقتصادي والتجاري والعسكري وأمن الطاقة بما يفوق كثيراً خلافاتهما في إدلب، كما أن تفاهماتهما في الملف السوري تحديداً قد أفادت كليهما لا سيما روسيا. أكثر من ذلك، فتقدم النظام بضعة أمتار هنا أو هناك لا يستحق خسارة الأخيرة مكاسب استراتيجية صنعتها على مدى سنوات تمثلت بفجوة الثقة الكبيرة بين الولايات المتحدة وتركيا وتقارب الأخيرة الملحوظ معها.
إذن، لا يريد أي من الطرفين مواجهة عسكرية مفتوحة مع الآخر، ما يعني أنهما متفقان على ضرورة التوصل لتفاهمات ما كما حصل سابقاً، لكن خلافهما يدور حول بنود التفاهمات المفترضة وبالتالي الطريق للوصول لها. وفي ظل استمرار خلافهما في مرحلة التفاوض القائمة حالياً، يحرص كل منهما على إيصال رسائل سياسية وميدانية عديدة، وتقوية أوراقه التفاوضية للوصول إلى أفضل ما يمكنه في أي اتفاق مستقبلي، بما في ذلك رفص سقف التصريحات والاتهامات المتبادلة وتحميل المسؤوليات وتحريك العناصر المحلية.
تريد روسيا من تركيا الإقرار بالأمر الواقع الذي فرضه تقدم النظام، وبالتالي "إزاحة" حدود التماس والمنطقة منزوعة السلاح وغيرها من بنود اتفاق سوتشي (بما في ذلك إزالة النقاط المحاصرة؟)، بينما تطالب تركيا باحترام الاتفاق والعودة لحدوده. وتبرز هنا ثلاثة محددات أساسية بالنسبة للأخيرة: أمن نقاط المراقبة والجنود داخلها، وعدم وصول النظام للحدود وسيطرته على كامل المنطقة، ومنع حصول موجة لجوء كبيرة باتت تعتبرها ورقة ابتزاز وضغط من النظام (وروسيا) ضدها إضافة لبعدها الإنساني.
بالنظر لكل ذلك، يمكن إلى حد كبير استبعاد سيناريوهَيْ سيطرة النظام على كامل إدلب في المرحلة الحالية، وكذلك حصول مواجهة عسكرية بين أنقرة وموسكو، مع أن الأخير يبقى احتمالاً قائماً نظرياً بسبب تعقد المشهد الميداني وتضارب الرؤى، وكذلك احتمالات تدخل أطراف ثالثة لدحرجة الأوضاع الميدانية نحو ذلك.
ثمة سيناريو أوفر حظاً نسبياً وهو الحفاظ على الوضع القائم، بمعنى بقاء قوات النظام ما بعد الطرق الدولية دون أي تقدم إضافي وعدم تدخل تركيا رغم ذلك. وهو أمر سيكون صعباً على تركيا تقبله بعد كل التصريحات والتهديدات التي أصدرتها وسيعتبر انتصاراً روسياً (وللنظام) ضدها. وهو سيناريو مستبعد إلا إن قدمت روسيا لتركيا مكاسب أخرى يمكنها قبولها وتسويقها مثل تأمين نقاط المراقبة و/أو تفاصيل تتعلق بقوات سوريا الديمقراطية ومنطقة عملية نبع السلام.
هناك سيناريو رابع يتمثل في عملية عسكرية تركية واسعة ضد قوات النظام لإعادتها إلى حدود اتفاق سوتشي، بل ربما استهدافها خارج تلك الحدود كما ألمح اردوغان مؤخراً. وهو أوفر حظاً نسبياً من سابقه، ويمكن أن يؤدي إلى إحدى نتيجتين:
الأولى، تدخل روسي إلى جانب النظام، ما يعني مواجهة روسية- تركية وهي مستبعدة كما أسلفنا سابقاً، لا سيما في ظل عدم ثقة أنقرة بتصريحات الولايات المتحدة ودعمها لها.
الثانية، تسريع المفاوضات بين الجانبين التركي والروسي وبالتالي التوصل لتفاهمات جديدة.
السيناريو الخامس والأوفر حظاً من كل سابقيه هو تحرك تركي محدود ومحسوب ضد قوات النظام لإعادتها إلى خلف الطرق الدولية وفك الحصار عن نقاط المراقبة وتأمين إدلب، وبالتالي إنشاء شريط حدودي أو منطقة آمنة بمحاذاة الحدود، على شاكلة مناطق العمليات التركية الثلاث السابقة، وهو كفيل بتفعيل مسار التفاوض بين أنقرة وموسكو كذلك.
لكن، ما الاتفاق الذي يمكن أن يرضي الطرفين؟
منطق التفاوض يقول بأن يكون الحل/الاتفاق وسطاً بين الجانبين بحيث يراعي مطالب الطرفين وكذلك موازين القوى بينهما، وهو ما يعني أنه سيستجيب للحد الأدنى من مطالبهما مع رجحان كفة روسيا.
وبالتالي قد يكون ما يمكن للطرفين التوصل إليه هو تأمين نقاط المراقبة التركية و/أو فك الحصار عنها، وعودة قوات النظام إلى ما قبل الطرق الدولية مع ضمان تركيا لبقائها مفتوحة وحرية التنقل فيها، ومقاربة تركية أكثر حزماً في مواجهة هيئة تحرير الشام و"المجموعات الراديكالية"، إضافة لتأمين أنقرة الشريط الحدودي أو المنطقة الآمنة التي تحوي الكثافة السكانية العالية وتمنع بالتالي موجة نزوح ولجوء كبيرة، فضلاً طبعاً عن تفعيل المسار السياسي.
في المحصلة، فنحن اليوم إزاء رسائل سياسية وميدانية متعددة هدفها تقوية وزيادة الأوراق على طاولة التفاوض ما قبل اجتماع الوفد التركي بنظيره الروسي اليوم الاثنين في موسكو، وفي ظل إدراك الجانبين أن استمرار التوتر والحشود والتصعيد فترة طويلة يمكن أن يؤدي إلى تدحرج الأوضاع إلى ما لا يريده الطرفان. وعليه، وعلى عكس ما يرى الكثيرون، فإن احتدام الأوضاع الميدانية قد تسرع التوصل لاتفاق ما بين الجانبين.
وعليه، فنحن إزاء سيناريو كبير واحد مرجح هو التوصل لتفاهمات ما بين أنقرة وموسكو، ويتفرع عنه سيناريوهات أخرى فرعية يمكن اعتبارها الطريق أو الإرهاصات التي ستوصل إليها.