ليست العلاقات الروسية ـ التركية علاقات عابرة فرضتها الضرورات الملحة، وليست هي بالمقابل علاقات وطيدة تصل حد التحالف العميق.. هي علاقات يمكن وصفها بأنها أقل من تحالف استراتيجي وأكثر من تفاهم.
حتى الأمس القريب، كانت روسيا وتركيا تقعان في فضاءين استراتيجيين مختلفين، أيديولوجيا وسياسيا واقتصاديا: واحدة تتزعم حلف وارسو الاشتراكي والأخرى جزء فاعل في حلف الناتو الغربي.
ومع أن العلاقات بين الجانبين بدأت تتحسن مع انهيار الاتحاد السوفيتي، غير أنها لم تصل إلى هذا المستوى الإيجابي إلا بسبب التقاطع في العداء للغرب أولا وبسبب متغيرات طارئة في الجغرافية الاستراتيجية (سورية).
فائض القوة
تشترك الدولتان بوجود حالة من فائض القوة لديهما في وقت تدخل علاقتهما مع الولايات المتحدة في فتور: نجح بوتن في فرض الإيقاع الروسي على أوكرانيا وجورجيا وأستونيا وسورية، وبالتالي فرض السطوة الروسية رغم أنف الأمريكيين والأوروبيين على منطقة أوراسيا، بعد سنوات عجاف من تقهقر روسي من الساحتين الإقليمية والدولية.
بالنسبة لتركيا، كانت الصدمة الأولى للغرب عندما بدأ أردوغان تصفير مشكلات تركيا مع محيطها الإقليمي، ثم جاءت الصدمة الثانية مع الكلام القاسي الذي وجهه أردوغان إلى شيمون بيريز في منتدى دافوس عام 2009 قبل أن ينسحب منه احتجاجا على العدوان الإسرائيلي على غزة.
لن تخاطر تركيا برمي الثمار التي حققتها من البوابة الروسية سريعا، لكنها في المقابل لن تتخلى روابطها مع الولايات المتحدة القادرة على التعطيل في سورية.
لفت أردوغان أنظار العالم إلى أنقرة التي ظلت لعقود طويلة مدللة عند الأمريكيين والإسرائيليين، لأنها تنفذ مطالبهم بصمت.
جاءت الأزمة السورية لتفرض على
تركيا وقائع جديدة.. موقعها الجغرافي وقدراتها العسكرية والاقتصادية سمح لها أن تبقى في المشهد السوري بعد انسحاب أطراف عدة منه.
لكن أردوغان الذي يدرك حجم إمكانيات تركيا، بدأ يفرض نفسه في ساحات لم تكن ضمن المجال التداولي للمصالح التركية (ليبيا).
فائض القوة لدى الجانبين من جهة، وتقارب الجغرافية من جهة ثانية، واختلاف في المصالح من جهة ثالثة، دفع الدولتين للتقارب، لكن هذه الاسباب نفسها تحول دون حصول تحالف استراتيجي، فإذا كانت روسيا بحكم مساحتها مثقلة بالهموم الآسيوية، فإن موقع تركيا في قلب العالم يضعها على تماس مع قارات ثلاث، ما يجعل من خياراتها واسعة جدا، بحيث يصعب اختزالها في الشرق وحده أو الغرب وحده.
إدلب تختزل المشهد
تعاني الدولتان من ضعف في الساحة السورية، فلم تنجح روسيا في استثمار انتصاراتها العسكرية على المستوى السياسي والاقتصادي والإنساني، بالمقابل لم تنجح تركيا في استحصال مكاسب عسكرية إلا عبر بوابتي موسكو وواشنطن، الأمر الذي يجعلها غير قادرة على اجتراح حلول بعيدا عن هاتين العاصمتين.
شكلت الأزمة السورية نوعا من المفارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين: اختلاف استراتيجي حيال الموقف من الثورة ومن النظام ومن مستقبل سورية السياسي، غير أن هذه الخلافات الحادّة، وبفعل تعقد المشهد السوري بسبب كثرة الفاعلين الإقليميين، دفعت الطرفين إلى تقديم تنازلات متبادلة في إدلب.
يمكن لتركيا تحمل خسارة بعض المناطق في إدلب، كما يمكن للروس تحمل بقاء بعض المناطق خارج سيطرة الأسد إلى حين الوصول إلى التسوية الكبرى.
ولا تعني هذه التنازلات تقاطعا في الرؤى الاستراتيجية، بقدر ما تعني تقاطعا في أولوية المصالح الخاصة لكل طرف، ومن هنا، قد تتغير أولوية هذه المصالح مع مرور الوقت، وحدوث تغيرات مفاجئة في المشهد السوري.
ضمن دائرة التقاطعات/ التخارجات التي تحكم العلاقة بين الدولتين في
سوريا، يمكن فهم حدود التلاقي والافتراق بينهما، وتشكل منطقة إدلب نموذجا لطبيعة العلاقة هذه.
المشكلة التي تواجه صناع القرار في أنقرة أن السياسة الأمريكية تجاه سوريا لا تزال غامضة، ولن تخاطر تركيا برمي الثمار التي حققتها من البوابة الروسية سريعا، لكنها في المقابل لن تتخلى روابطها مع الولايات المتحدة القادرة على التعطيل في سورية.
يمكن تلمس ذلك من خلال تصريحات المبعوث الأمريكي إلى سورية جيمس جيفري، فقبيل لقائه المسؤولين الأتراك في أنقرة أعلن عن دعم بلاده لتركيا وأنها مستعدة لتقديم المساعدة التي تريدها أنقرة وأن القتلى الأتراك في سورية هم شهداء أمريكا بقدر ما هم شهداء تركيا.
لكن عقب اجتماعه مع المسؤولين الأتراك، تغيرت نبرة جيفري، فتحدث عن استبعاد نشوب حرب واسعة في إدلب بين الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران، لأن هذه الدول تتصرف بحذر، ثم أضاف أن تركيا وروسيا تحاول التغلب على خلافاتها عبر المحادثات.
تؤكد هذه التصريحات أن جيفري سمع كلاما في أنقرة بخلاف ما كان يتوقع، فالرئيس التركي لم ينخدع بعبارات جيفري وبومبيو.
والغريب في الأمر أن الروس أطلقوا تصريحات أثناء وجود جيفري في أنقرة تطالب الأتراك بعدم الانصياع للمطالب الأمريكية، وأن الأمريكيين مخادعون.
إلى أين؟
لن تصل الأمور في إدلب إلى حد المواجهة العسكرية بين الدولتين، ليس لأن روسيا تمتلك القدرات العسكرية على إحداث التغيير، فيما تمتلك تركيا القدرة على التعطيل عمليا وسياسيا، فحسب، بل والأهم لأن كلا الطرفين بحاجة إلى بعضهما البعض على المستوى الاستراتيجي في مواجهة الولايات المتحدة.
ولذلك، فإن حصول الاتفاقات الاقتصادية الكبرى (السيل التركي) والعسكرية (S 400) تعبر عن توجه إلى شراكة جديدة بين الدولتين لم تعرفهما منذ نحو مئة عام.
وفق هذه المعطيات، يمكن لتركيا تحمل خسارة بعض المناطق في إدلب، كما يمكن للروس تحمل بقاء بعض المناطق خارج سيطرة الأسد إلى حين الوصول إلى التسوية الكبرى.
والتصريحات التركية والأمريكية والروسية خلال اليومين الماضيين تؤكد أن الأمور ذاهبة إلى الحل وليس إلى التصعيد العسكري المباشر.
*كاتب وإعلامي سوري