"شيخ المناضلين" رحل ولم تفارقه مرارة احتلال فلسطين (بورتريه)

تعرفه القدس وطرقاتها وحجارتها الرطبة، تماما، كما يعرفه الدحنون والزعتر البري والياسمين.

تعرفه البنادق وأصوات الرصاص المصوب نحو العدو، ودماء الشهداء التي غطت ملابسه، رجلا صلبا ومغامرا ومقاتلا عنيدا حتى الصلية الأخيرة من رشاشه الأوتوماتيكي.

لم تترك المعارك التي شارك فيها شيخ المناضلين الفلسطينيين والعرب موضعا بجسمه إلا أصابته شظية من قنبلة، أو رصاصة موجهة إليه مباشرة.

دفع ثمن نضاله المسلح والسياسي الكثير من صحته وحريته ووضع في السجون والمعتقلات عدة مرات في عهد الانتداب البريطاني، وفي الأردن بعد أن شارك في العمل السياسي على الساحة الأردنية.

تعود أصول بهجت أبو غربية، شيخ المناضلين، المولود عام 1916 في بلدة خان يونس بقطاع غزة، إلى عائلة من مدينة الخليل، لكنه أمضى معظم حياته في مدينة القدس التي كان يعشق شوارعها العتيقة فأصر على إنهاء تعليمه من المدرسة الرشيدية الثانوية بالقدس.

حتى رحيله في 26 كانون الثاني /يناير عام  2012 في مدينة عمان، شارك "أبو سامي"، في جميع مراحل النضال الفلسطيني والعربي المسلح ضد احتلال فلسطين، بدأت مع ثورة عام 1933 وله من العمر 17 عاما، وتوجها بمشاركته في ثورة فلسطين الكبرى ما بين عامي 1936 و1939، وفي حرب أيار /مايو عام 1948 التي عرفت فيما بعد باسم "النكبة "، وكان أحد قادة "جيش الجهاد المقدس" وخاض معارك عديدة في مدينة القدس منها "معركة القسطل" التي استشهد فيها القائد عبد القادر الحسيني.

اقرأ أيضا: في ذكرى رحيله الـ15.. تعرف على "الياسر" (تفاعلي)

اشتغل أبو غربية في بداية حياته بمهنة التعليم في الكلية الإبراهيمية بالقدس من عام  1936 وحتى عام 1956، كما عمل في نفس الفترة في الصحافة مراسلا لصحيفة "الجامعة الإسلامية" في القدس.

انتسب إلى "الحزب العربي الفلسطيني" عام 1946، وفيما بعد دخل في عضوية حزب "البعث العربي الاشتراكي" في الأردن، وانتخب عضوا في القيادة القطرية في الحزب عام 1951 وحتى عام 1959 وقاد النضال السري للحزب في الأردن ما بين عامي 1957 و1960.

شارك في تأسيس "منظمة التحرير الفلسطينية" مع الراحل أحمد الشقيري، كما شارك بدور أساسي أيضا في تأسيس "جيش التحرير الفلسطيني" و"قوات التحرير الشعبية."

تاريخه النضالي وضعه في الصفوف القيادية لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" عبر انتخابه عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة ثلاث مرت قبل أن يتخلى عن عضوية المنظمة، كما كان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها عام 1964 حتى عام 1991، حين استقال احتجاجا على قبول المنظمة بقرار مجلس الأمن رقم 242 والاعتراف بدولة الاحتلال.

ومن ضمن المراحل النضالية في حياته اشتراكه في العمل الفدائي ضد الاحتلال ما بين عامي 1968 و1971.  واشتراكه أيضا في قيادة وتأسيس" جبهة النضال الشعبي الفلسطيني" ما بين عامي 1968 و1991.

وفي سنوات لاحقة دخل في "التجمع القومي العربي الديمقراطي"، ومع توقيع اتفاقيتي "أوسلو" و"وادي عربة" وإقامة علاقات "رسمية" بين الأردن ومنظمة التحرير من جهة ودولة الاحتلال من جهة أخرى، ترأس "اللجنة العربية الأردنية لمجابهة الإذعان والتطبيع"، وعضوية اللجنة التنفيذية لـ"المؤتمر الوطني الأردني لحماية الوطن ومجابهة التطبيع".

وفي دوامة "المفاوضات" بين العرب والاحتلال، أصدر أبو غربية عام 1993 القسم الأول من مذكراته بعنوان "في خضم النضال العربي الفلسطيني"، وفي عام 2004 صدر له الجزء الثاني من مذكراته بعنوان "من النكبة إلى الانتفاضة". وركز فيه على الأحداث السياسية التي شهدها الأردن في الخمسينيات والستينيات.

أعاد أبو غربية تعريف وتوصيف طبيعة الصراع في المنطقة العربية، فهو يرى أن احتلال فلسطين ليس "احتلالا عاديا"، كان يقول إننا كأمة عربية نواجه "غزوا صهيونيا استعماريا استيطانيا".

كان "أبو سامي" من دعاة التركيز على وصف ما يجري بأنه "صراع عربي صهيوني"، موضحا أن إخراج القضية من عمقها العربي أدى إلى "تراجع في المشروع المقاوم للعرب، لأن المقاومة يمكن أن تتصاعد أو تتضاءل حسب الظروف المحيطة بها". بحسب ما صرح به وما كتبه في مذكراته.

كان يعتقد أن مواجهة " الاستعمار الصهيوني والتغلب عليه يحتاج إلى وقت وإلى اتفاق الأمة العربية والإسلامية على تبني نهج المقاومة، لأن هذا الاستعمار لا يفهم لغة الحوار والتفاهم، ولكن أسلوبه هو كسب الوقت وتطبيق إستراتيجيته في تهويد فلسطين وتحقيق أطماعه بالسيطرة على أكبر مساحة من الوطن العربي".

حتى آخر أيامه كان يؤمن بأنه "لا بد من نهاية  لهذا الاستعمار كسائر المشاريع الاستعمارية السابقة".

رحل عن 96 عاما ولا زالت صور الشبان والمقاتلين العرب من الأردن وسوريا والعراق عالقة في مخيلته، ولم يغادر ذاكرته أول مسدس اشتراه عام 1934، وأول رصاصة أصابته في بطنه، وكان حين يتذكر جروحه يقول: "مش مهم".

ترك احتلال فلسطين مرارة عميقة لدى بهجت أبو غربية الذي حمّل الأنظمة العربية مسؤولية ضياع فلسطين، وحتى رحيله بقيت مسؤولية النظام الرسمي العربي عن ضياع فلسطين مسألة تؤرقه وراسخة في وعيه.