هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في قرية ميت غزال مركز السنطة بمحافظة الغربية من الديار المصرية، وفي عشرينيات القرن الفائت كان ثمة فتى نبغ في كتاب القرية وأخذ يؤم المصلين في مسجدها، كان محبوب جده الذي عقد عليه آمالا كبيرة في أن يتدرج في مواكب القراء العظام.
أذن هذا الفتى مرهفة وروحه محلقة
وعقله راجح. أخذ يقرأ القرآن ويرتله حتى أصبح مطلوبا في كل مناسبات القرية ثم سافر
إلى طنطا وهناك فتحت له بوابة جديدة. صوته العذب وما يحمله في صدره من حفظ لكتاب
الله العزيز كان طريقه الممهدة لدخول قلوب المسلمين في العالم.
تمتاز قراءة الشيخ مصطفى إسماعيل
بعدة مستويات من الإتقان. المستوى الأولي هو إتقان قراءة الحروف واعطاء كل حرف
حقه، والمستوى الذي يليه هو حسن الوقف والابتداء في النص الرباني، وأما المستوى
الثالث فهو تمكن هذا النص من كيان المؤدي وبعد ذلك تتجلى الموهبة والنعمة الإلهية.
فمن القراء من يقوده اللحن والمقام
فيأخذنا بالطرب دون أن يغوص في بحار النص. وهذا يدعنا ندور في قشرة الصوت والمقام.
ومنهم من تصطبغ قراءته بدغدغة عاطفة الجماهير والتي تكون في معظمها من حاضري سرادق
العزاء، فتهيمن على أدائه ألوان الحزن الذي يذكر بالموت ومنهم من يضيع أداؤه بين
مفاتيح حالته النفسية.
غير أن الشيخ مصطفى له شأن آخر منذ
دخوله سرادقات القاهرة الملأى بالسميعة والمتذوقين. كان محترفا بامتياز. يشير
الأستاذ كمال النجمي أن الشيخ أدهش مجتمع السميعة وأذهلهم بما فيهم كبار
الموسيقيين، ومنهم الأستاذ محمد عبد الوهاب الذي كان حريصا على حضور أي حفلة يسمع
عنها للشيخ ويُروى عن أم كلثوم قولها "الحمد لله أن الشيخ مصطفى مالوش في
الغنا.. كان ركنا كلنا على جنب".
لم يدرس الشيخ مصطفى إسماعيل في أي
معهد موسيقي، لكنه كان مرجعا في الانتقال السلس بين المقامات حتى التي لم يُتخيل
الانتقال فيما بينها.
تميز الشيخ مصطفى إسماعيل بأدائه
التعبيري المسرحي التفسيري للقرآن، وقد استخدم في ذاك عناصر كثيرة، أولها حسن
الوقف والابتداء. وثانيها إتقانه للمقامات الموسيقية إتقانا يصل حد الإعجاز، كما
أقر بذلك كبار موسيقيي عصره كما سنذكر لاحقا. ثم صوته الذي لن يتكرر بطبقاته
الواسعة وقبل ذلك كله إحساسه المرهف العالي بهذا النص الرباني العظيم.
حسن الوقف والابتداء
لهذا الفن مبادئه المضبوطة والتي
ضبطها السابقون بقواعد معروفة، فهناك مواقف لا يجوز التوقف عندها، وهناك مواقف يجب
الوقوف عليها، وهناك أخرى يستحسن الوقوف عليها وما إلى ذلك. وقد جمع العلماء هذا
العلم ونظموه وضبطوه بقواعد معروفة وفي هذا الرابط جَمعٌ وتعريف لأكثر من 24
منظومة في هذا العلم لمن أراد الاستزادة من هذا العلم.
وإذا كان زمن الوقف عنصرا مهما في
أدائنا لمقطوعة موسيقية وضروريا في ضبط وتشكيل الملامح الشخصية لذلك اللحن، فإنه
أدعى للأهمية في حالة قراءة القرآن. فالآلة هنا حنجرة المقرئ التي لها حدود بشرية،
من طول النفس وامكانيات الصوت.
وأما أساسيات الوقف والابتداء فهي
تبدأ برؤوس الآيات ونهاياتها، ثم ما بين الآيات نفسها من استكمال المعاني أو
الوقوف عليها. وكل ذلك مضبوط في مصاحفنا في الوقت الراهن وله رموز معروفة. هذا هو
المستوى الأول وأما المستوى الأعلى فهو مجال مفتوح من الإبداع ينطلق من المستوى
الأول ولا ينتهي إلى ما شاء الله.
اقرأ أيضا: حداثة سياسية سابقة لعصرها
الشيخ مصطفى إسماعيل كان عماد إبداعه
هنا بأن يقف وقفا خاصا به، في قراءة خاصة لا تتعارض مع قواعد هذا الفن، لكن تضيف
له وكأنه يسلط الضوء على معنى جديد، وكأننا في مسرح كبير عَرف مهندس الضوء شغله
فوضع الإضاءات في مكانها الصحيح، لكن المخرج أضاف هنا وهناك إضاءات مبتكرة لا
تخالف مهندس الضوء، لكن لمساته المبدعة أضافت سحرا وبعدا دراميا جعل الجمهور يطير
عقله بذلك.
حسن الوقف والابتداء مثل الإضاءة في
المسرح أو الإيقاع في اللحن لا تلاحظه بسهولة، لكنه أساس عظيم في اكتمال العمل
الفني.
وأما دلالة إتقان هذا الفن فهو يدل
على رجاحة عقل، وفهم صحيح للغة ولكلام الله، وله بعد تفسيري عام، وفي مستواه
الثاني يدل على احتراف وتمكن وتفاعل لا مثيل له مع النص، واتحاد مذهل معه ومع
اللحظة الراهنة، لحظة القراءة وأبعادها التفسيرية (تفسير النص) والشخصية (مشاعر
القارئ أثناء القراءة) و(تفاعل المتلقين) أثناء الاستماع وذوبانهم في السماع.
في هذا التسجيل المرفق من سورة القصص
نضع نموذجا من إبداعات الشيخ في هذا المضمار. نلاحظ بداية الوقف عند قوله تعالى:
"ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون" في الدقيقة 0:29 ثم
أحسن الوقف في الدقيقة 1:34 عند قوله تعالى: "فسقى لهما". وهذان الوقفان
ليسا من الوقوف المتعارف عليه والمثبت في مصاحفنا هذه الأيام. والشيخ هنا أيضا وصل
نهاية الآية: "وأبونا شيخ كبير.. فسقى لهما". وكأنه يسلط الضوء على
عبارة "فسقى لهما" لأنها مفتاح العلاقة الطيبة بين سيدنا موسى والرجل
الصالح وابنته التي أصبحت فيما بعد زوجة نبي الله موسى عليه السلام. ناهيك عن فعل
السقاية بما فيه من دلالات الرحمة. ثم كرر الوقف رحمه الله في الدقيقة 2:52 وكأن
الوقفان ملفوفان بمقام النهاوند الذي يعبر عن العاطفة والرحمة.
مثال آخر في نفس التسجيل عند وقفه
على كلمة "تمشي" في الدقيقة 4:28، وليس ذلك من الوقف المعروف. لكن عندما
قرأ: "على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا" وكأنه
أراد أن يصور لنا أن قولها كان على استحياء وليس مشيها وهذا تنزيه لسيدنا موسى
بملاحظة مشيها.
ويمكن لنا ملاحظة الكثير من هذه
الوقفات المبدعة في قراءات الشيخ المنتشرة على الإنترنت، لذلك يستحب ويحسن
بالمستمع بأن يدقق كثيرا في وقفات الشيخ ووصلاته، فهذا رجل آتاه الله موهبة أن
يعيش القرآن ويحسه حرفا حرفا. رحم الله الشيخ وأجزل مثوبته.