هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منتصف شهر شباط (فبراير) من العام 2013، أعلن رئيس الوزراء التونسي وقتها، حمادي الجبالي، فشل مبادرته لتشكيل حكومة تكنوقراط لا تضم ممثلي أحزاب، وذلك عشية إعلان حركة "النهضة" الإسلامية التي كان يشغل فيها منصب الأمين العام، رفضها مبادرته باعتبارها "لا تستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة".
وجاء هذا الإعلان عقب مشاورات أجراها الجبالي مع الأحزاب السياسية، وهو الذي أعلن قراره تشكيل حكومة التكنوقراط، ساعات قليلة عقب اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد، بهدف إخراج البلاد من الأزمة السياسية التي تصاعدت حدتها بعد الاغتيال.
انقلاب مدني
رئيس حركة "النهضة"، راشد الغنوشي، كان صعد في تلك المرحلة من حدة تصريحاته المعارضة لخطط الجبالي، واعتبر أن طرح حكومة كفاءات غير حزبية تتويج لسلسلة "مؤامرات" تتعرض لها الحركة، واعتبر في تظاهرة لأنصار الحركة لـ "الدفاع عن الشرعية" قرار الجبالي "انقلابا على شرعية الحكومة"، وأن تخلي "النهضة" وشركائها عن السلطة لفائدة حكومة كفاءات "انقلاب مدني".
أما مجلس شورى الحركة، فأكد يومها أنه "يتمسك بخيار الحركة في تشكيل حكومة سياسية ائتلافية، مستندة إلى شرعية انتخابات 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2011"، التي تصدّرتها "النهضة"، مؤكدا ضرورة أن تكون هذه الحكومة "منفتحة على الخبرات الوطنية الملتزمة بتحقيق أهداف الثورة، وفق برنامج سياسي لاستكمال مرحلة الانتقال الديمقراطي".
المتحكمون في الشأن العام العربي يسعون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لاستدراج أسماء لا تأثير لها لممارسة التدبير العام، بشكل يجعل ولاءهم لصاحب النعمة أعمى. فهو الذي فتح الأبواب أمامهم، وله يدينون بالبقاء في كراسي المسؤولية دونما حاجة لتفويض شعبي.
غنوشي 2013 وغنوشي 2019
المفروض في رئيس المؤسسة التشريعية، وهي بيت الأحزاب وقبة الممارسة السياسية الشرعية، وفي رئيس أي حركة سياسية حزبية أن يدافع بكل قوته عن الاختيار الشعبي، وعن أحقية الأحزاب السياسية في ممارسة السلطة المخولة لها دستوريا في تشكيل الحكومات وتسيير الشأن العام، لكن انبراء راشد الغنوشي لإقصاء الحزبيين من تدبير السلطة، توجه مريب بقدر ما يحقق طموحات شخصية في البقاء والاستمرارية، يرهن أحقية الشعب في اختيار حاكميه، ويعيد إلى الواجهة سلطة استبدادية تؤمن بقصور الشعب عن حسن الاختيار. الثابت الأكيد بين غنوشي 2013 وغنوشي 2019 هو أن "النهضة لن تفرط في السلطة أبدا"، كما أكد في إبان الجدل حول حكومة الجبالي التكنوقراطية، وإن أضاف "ما دامت تتمتع بثقة الشعب التونسي".
الحكومة التكنوقراطية في تعريفها النظري، حكومة مكونة من الخبراء وأهل الاختصاص دون انتماء حزبي أو سياسي، ولا تستند قرارات أعضائها إلى شرعية الرأي العام، بل إلى المنهجية العلمية البحتة.
في الديمقراطيات الراسخة، وفي الأنظمة الرئاسية تحديدا يمكن للرئيس تعيين تشكيلته الوزارية دون التزام بعضوية أفرادها في أحزاب أو كتل برلمانية، لكنه بالمقابل، يجعل هؤلاء تحت إمرة المشرعين الذين يمكنهم رفض استوزارهم أو رفع الثقة عنهم وإقالتهم. ويحدث أن يتم تعيين أشخاص من خارج الدوائر الحزبية، ولو في الأنظمة البرلمانية، بالنظر لخبرتهم وكفاءتهم وأيضا لحضورهم في المشهد السياسي، كفاعلين حقيقيين مستقلين لهم نفوذ وتأثير في الرأي العام. لكن الوضع مختلف تماما في البلدان المتخلفة، والبلدان العربية في قلبها، حيث يجنح دعاة التكنوقراطية إلى ترشيح "نكرات" لا تأثير أو حضور لها في النقاش العام لمجرد حصولها على درجات أكاديمية معينة، ليست بالضرورة معيارا على علم أو كفاءة أو قدرة على التسيير.
قتل السياسة
في تونس، أعلن الحبيب الجملي أنه سيشكل حكومته دون العودة إلى الأحزاب، عكس تجربة سلفه الجبالي المجهضة، وهو ما يطرح السؤال عن معالم البرنامج السياسي والتنموي الذي ستشتغل عليه الحكومة المنتظرة، وهي التي تحتاج إلى نيل ثقة البرلمان المكون من الأحزاب دون غيرها، فكيف للتنظيمات السياسية أن تقبل بشخصيات غير محزبة لإدارة البلاد، وهي التي تبارت على تحقيق ذلك في حملاتها الانتخابية مقدمة الوعود إلى المواطنين؟ وكيف للناخبين أن يقبلوا بوزراء لا يمثلون اختيارهم الشعبي، ومن ثم عدم القدرة على التصويت عقابيا ضدهم أو ضد هيئاتهم في حال إخلافهم للوعود؟
المتحكمون في الشأن العام العربي يسعون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا لاستدراج أسماء لا تأثير لها لممارسة التدبير العام ،بشكل يجعل ولاءهم لصاحب النعمة أعمى. فهو الذي فتح الأبواب أمامهم، وله يدينون بالبقاء في كراسي المسؤولية دونما حاجة لتفويض شعبي.
البحث عن الكفاءات خارج التنظيمات السياسية، والإبقاء على منتسبي الأخيرة مجرد ببغاوات تجوب استديوهات التلفزيونات للتنظير أو إصدار البيانات بلغة منمقة تدعي القدرة على حل المشكلات، إقرار بفشل السياسيين