هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يكن أشد المتحمسين لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ولا أشد أعداء رئيس حزب العمال جيرمي كوربين يتوقع النتيجة المدوية للانتخابات، والتي وصفتها الصحافة البريطانية بالزلزال، فهي الخسارة الأكبر للعمال منذ عام 1935، والفوز الأكبر للمحافظين منذ انتصار مارغريت تاتشر عام 1987.
"قتل" جيرمي كوربين!
ثمة عوامل كثيرة لخسارة العمال، ولكن الأرقام تشير إلى أن السبب الرئيسي هو البريكسيت، حيث أن المدن العمالية التي صوتت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016 تحولت للتصويت لبوريس جونسون في انتخابات 12 كانون الأول/ ديسمبر الجاري.
في السياسة، يتحمل القائد مسؤولية الخسارة في الانتخابات أو الفشل في الحكم، وبذلك يتحمل جيرمي كوربين المسؤولية السياسية للخسارة، وهو أقر بذلك بوضوح، ولكن هناك الآن ظاهرة في الإعلام البريطاني تحاول قتل "إرث" كوربين من خلال الترويج لفكرة أن الناخبين لم يصوتوا للعمال لأن كوربين هو قائد الحزب، وهي فكرة تكذبها الأرقام التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة عن دور البريكسيت الحاسم في الخسارة.
تجري محاولات قتل إرث الرجل من أطراف عديدة، أهمها خصوم كوربين في الحزب من "البليريين" (نسبة إلى توني بلير)، ومن النخبة اليمينية التي تريد تأكيد فشل الأجندة اليسارية للرجل، ومن مؤيدي اللوبي الصهيوني الذي يسعي لترويج فكرة أن الخسارة تمت بسبب مزاعم "معاداة السامية" التي لوحق بها كوربين زورا وبهتانا لسنوات، وأخيرا من بعض المؤمنين بأن كوربين شخصية غير قابلة للنجاح في الانتخابات "Unelectable" بسبب شخصيته وأفكاره.
يتجاوز مهاجمو كوربين ومتهموه بأنه سبب خسارة العمال حقائق عديدة تؤكد خطأ فكرتهم. فالرجل الذي يتهم بأنه "غير قابل للنجاح في الانتخابات" هو نفسه الذي حقق تقدما لحزب العمال في انتخابات عام 2017
مثّل كوربين حلما للكثيرين لأنه رجل مبادئ، ولأنه قضى عمره في الدفاع عن الأفكار التي يؤمن بها، مثل الحرية والمساواة والدفاع عن الفقراء ودعم قضايا تحرر الشعوب وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني. حاربه خصومه بالادعاء بأنه غير سياسي، وأنه مثالي وساذج، وأنه غير جذاب ولا يمتلك الكاريزما، وأنه ليس رجل دولة. وهي ادعاءات لا تصمد أمام الواقع والحقائق برغم خسارة الانتخابات.
استطاع كوربين أن يثبت أنه رجل دولة شيئا فشيئا، وظهرت مهاراته مع الوقت خصوصا في فقرة أسئلة رئيس الوزراء في مجلس النواب، وكان واضحا أنه يتقدم في هذا المجال كل يوم عن سابقه، وأنه ند قوي لكل من تيريزا ماي ثم بوريس جونسون. كان مبدئيا ولكنه لم يكن ساذجا، بدليل أنه استطاع أن يفرض قيادته على الحزب برغم كل محاولات الانقلاب عليه من العمال الأقرب للمحافظين، وأنه وصل لانتخابات عامة مرتين في ظروف سياسية تاريخية لبريطانيا في حين فشل القائدان السابقان للحزب (غوردون براون وإيد ميليباند) من أول تجربة انتخابات لهما.
تمكن كوربين خلال أربع سنوات من قيادته للحزب من تحويله لأكبر حركة سياسية في أوروبا، حيث انضم للحزب أكثر من 300 ألف عضو جديد جميعهم دخلوا للسياسية من باب تأييدهم للروح الجديدة التي صنعها كوربين. استطاع أيضا خلال هذه السنوات أن يحول الأفكار التي تتهم بأنها "راديكالية" لتصبح جزءا من الحياة السياسية اليومية في بريطانيا.
غيّر كوربين، الذي يريد الكثيرون قتل إرثه بجرة قلم، البرنامج الانتخابي لحزب المحافظين نفسه، نعم حزب المحافظين! حيث أجبر جونسون على تقديم برنامج يحمل وعودا بوقف التقشف ودعم الفئات الفقيرة وزيادة الإنفاق العام
مثل جيرمي كوربين العنيد لا يمكن أن يغادر مواقع النضال، وسيعود بلا شك لدوره المعتاد في قيادة حركات الاحتجاج وحركات التضامن. سيعود لهامش السياسة كشخص، ولكن ظاهرته وإرثه سيؤثران على مركز السياسة البريطانية لسنوات
قد يستطيع كوربين أن يحدد قائد العمال الجديد بعد تنحيه، وقد يفتح هذا الأمر الحزب على احتمالات غير معروفة حتى الآن، وقد يساوم لتقديم قائد يوازن بين أفكاره وبين أفكار البرلمانيين العمال الأقرب للوسط. وقد ينسحب بهدوء ولكن هذا أمر مستبعد، فمثل جيرمي كوربين العنيد لا يمكن أن يغادر مواقع النضال، وسيعود بلا شك لدوره المعتاد في قيادة حركات الاحتجاج وحركات التضامن. سيعود لهامش السياسة كشخص، ولكن ظاهرته وإرثه سيؤثران على مركز السياسة البريطانية لسنوات طويلة قادمة!