هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ظاهريا، قد يبدو عجز القوى السياسية المحسوبة على الثورة عن تشكيل حكومة من المفارقات الكبرى التي أعقبت ظهور نتائج انتخابات المجلس النيابي. فأغلب الناخبين قد اختاروا هذه التشكيلات السياسية (بما فيهم النهضة) على أساس وعد انتخابي أساسي: محاربة الفساد بكل وجوهه وفي كل مجالاته.
وقد أعطى وصول السيد قيس سعيّد لقصر قرطاج مشروعية كبيرة لانتظارات الناخبين. فالانتصار الكاسح لهذا الخبير الدستوري القادم من خارج الأحزاب، والذي لم يُخف يوما انحيازه لمطالب الثورة التي يمكن اختزالها في مطلب أساسي هو مقاومة الفساد، سيعطي للحكومة القادمة سندا سياسيا ودعما شعبيا راسخَين. ورغم أن الآجال القانونية لتكليف حزب النهضة بتشكيل الحكومة (باعتباره الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية) تبدأ بعد أسبوع من إعلان النتائج النهائية للانتخابات التشريعية، فإن التأزم الجليّ في علاقتها بحزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب (من خلال الشروط التي أعلنتها الأطراف المعنية) لا يساعد على التفاؤل بإمكانية تجاوز الخلافات في المدة الممنوحة للنهضة دستوريا كي تشكّل الحكومة (شهر قابل للتجديد بمثله).
بناء على هذه المقدمة، يصبح من المنطقي أن نتساءل عن الأسباب العميقة التي تمنع تلك القوى السياسية من تشكيل حكومة "مقاومة الفساد" التي وعدوا بها ناخبيهم. وقد يكون من المهم هنا أن نؤكد على أن الفساد الاقتصادي أو الإداري هو محل إجماع بين تلك القوى، على عكس الفساد النقابي أو الثقافي أو الإعلامي أو السياسي أو حتى القيمي.
ويبدأ الخلاف بين تلك القوى في مستوى رؤيتها للأطراف المستهدفة بالحرب على الفساد من جهة أولى، والقوى المستأمنة أكثر من غيرها على إدارة هذا الملف من جهة ثانية. وقد لا يكون من المبالغة أن نقول إن حصول حركة النهضة على الأغلبية البرلمانية قد أوجد "مفارقة أصلية"؛ يصعب حلّها في إطار المعطيات الحالية. فرغم أن هذه الحركة قد بنت حملتها الانتخابية التشريعية على أساس المفاصلة عن قوى الفساد السياسي والمالي، فإن بقاء وجوه التوافق في قيادتها (بل في إدارة المفاوضات الأولية مع باقي الأطراف المعنية بتشكيل الحكومة) لا يبعث برسائل طمأنة لباقي الشركاء، وتحديدا للتيار الديمقراطي وحركة الشعب.
ورغم أن الطرف الآخر المعني بتشكيل الحكومة (ألا وهو إئتلاف الكرامة) لم يصدر منه أي تشكيك في حق النهضة في تعيين رئيس حكومة من داخلها (على عكس التيار وحركة الشعب)، فإنه ترك ذلك الحق مطلقا بلا تقييد. فلم نسمع من رموز إئتلاف الكرامة أي اشتراط في تحديد شخصية رئيس الحكومة ولا رفضا مسبقا؛ لأن يكون ذلك المرشح من وجوه التوافق والتطبيع مع المنظومة القديمة. وهو سلوك سياسي سليم من الناحية الدستورية، ولكنه ملتبس من الناحية السياسية، خاصةً عندما نعلم أنّ مكوّنات إئتلاف الكرامة تنتمي إلى يسار النهضة (لا إلى يمينها كما هو متداول)، أي تلك الأطراف التي تؤسس خطابها السياسي على محورين: أما المحور الأول فهو عدم وجود عداء إيديولوجي ضد حركة النهضة، مع وجود نقد جذري لسياساتها التوافقية مع المنظومة القديمة، وأما المحور الثاني فهو القطيعة مع ممثلي المنظومة القديمة ورموزها وخياراتها الكبرى ثقافيا واقتصاديا وقيما. ولا يبدو أن سكوت إئتلاف الكرامة عن إمكانية ترشيح وجه توافقي من داخل النهضة لرئاسة الحكومة؛ متوافقا مع الصورة التي بناها لنفسه خلال الحملة الانتخابية، بل يبدو خيارا سياسيا مغريا للعديد من الخصوم بوصم هذا المكوّن السياسي بكونه مجرد تشكيلة سياسية وظيفية في خدمة حركة النهضة مهما كانت سياساتها.
أما التيار الديمقراطي وحركة الشعب، فإن خلافاتهما الأيديولوجية لم تمنع من التقائهما موضوعيا على الأقل في مسألتين: أولا اشتراط ألا يكون رئيس الحكومة من حركة النهضة، رغم أن التيار ترك للنهضة حق اختيار شخصية مستقلة، بينما دعت حركة الشعب إلى أن يُفوّض هذا الحق إلى رئيس الجمهورية في ما أسمته بـ"حكومة الرئيس"، وثانيا موقف الحزبين السلبي من ائتلاف الكرامة رغم أنه شريك ضروري في تشكيل الحكومة. وقد بلغت العلاقة الصدامية مثلا بين التيار الديمقراطي وائتلاف الكرامة حد التلاسن غير المباشر بين رموزٍ في قياديتهما، بالإضافة إلى الصراع المفتوح بين قواعد ائتلاف الكرامة ومناصريه، مسنودين في ذلك بالعديد من قواعد حركة النهضة، وبين التيار وحركة الشعب على منصات التواصل الاجتماعي، وهو صراع لن يساعد على بناء مناخ احترام/ ثقة متبادلة بين الأطراف المعنية بتشكيل الحكومة.
بصرف النظر عن البنية الأيديولوجية العميقة لموقف التيار الديمقراطي وحركة الشعب من حركة النهضة، فإن البعد الظاهر من هذا الموقف يبدو مشروعا وقابلا للنقاش. فمطلب تحييد رئاسة الحكومة عن الأحزاب يبدو مطلبا شرعيا بحكم وجود الوجوه التوافقية ذاتها في مراكز القرار داخل حركة النهضة، بل وجودها حتى في إدارة عملية التفاوض مع باقي الشركاء. ولكنّ الخطأ الذي وقع فيه التيار الديمقراطي وحركة الشعب؛ هو في تقديرنا عدم مطالبة حركة النهضة بترشيح شخصية غير توافقية وإصلاحية نهضوية لرئاسة الحكومة، وتوفير الضمانات المؤسساتية (هيئة متابعة مشتركة) لعدم تحول رئيس الحكومة إلى موظف حزبي تحكمه تعليمات مونبليزير، حيث يوجد مقر حركة النهضة.
وإذا كان من حق التيار وحركة الشعب أن يشترطا توفير الضمانات اللازمة لكي يكون وجودهما في الحكومة وجودا فاعلا وغير قابل للتلاعب أو لتداخل الصلاحيات، فإنه ليس من حقهما حرمان النهضة من حقها الدستوري في تشكيل حكومة برئاستها، انطلاقا من عدم ثقة جوهري في كل النهضويين على حد سواء، أي افتراض ضمني بفساد كل النهضويين واستحالة مشاركتهم الجدية في مقاومة الفساد. فهذه الحكومة تبقى ممكنةً بشرط تقديم شخصية غير مرتبطة بسياسة التوافق أو بالدعاية لها، مع توفير الضمانات الضرورية لمنع تحوّل هذه الشخصية ذاتها إلى قاعدة حزبية متقدمة داخل الحكومة. وهو ما يعني ببساطة أنّ تمسّك حركة النهضة بحقها الدستوري في تشكيل الحكومة؛ لا يعني بالضرورة تمرير شخصية توافقية تجعل من المشروع الخوف من انقلابها على الوعود الانتخابية، ومنع باقي الشركاء من ممارسة مهامهم المنتظرة داخل أجهزة الدولة لمقاومة الفساد.
ختاما، يبدو أنّ "الرباعي" السياسي المدعوّ لتشكيل الحكومة لم يبلغ بعدُ مرحلة من النضج السياسي التي تؤهله لإدارة معركة الحكم المشترك، فما بالك بمعركة محاربة الفساد باعتبارها معركة "وجود" للجمهورية الثانية ذاتها؟ وفي المدى المنظور، لا نرى مراجعات أو تنازلات مبدئية أو عمليات نقد ذاتي قد تحملنا على تعديل هذا الحُكم أو مراجعته. فرغم وعي هذا "الرباعي" باستحالة تشكيل الحكومة إلا بقبولهم العمل المشترك (لأن الفرضية الثانية تعني تشريك قلب تونس والدستوري الحر في مفاوضات تشكيل الحكومة، وهو أمر يرفضونه جميعا)، فإننا في الواقع نجد أنفسنا أمام "ثنائيتين" أو هويتين سياسيتين متنافرتين: النهضة وائتلاف الكرامة من جهة أولى، والتيار وحركة الشعب من جهة ثانية.
ورغم أننا لا نشك في وطنية هذه الأطراف كلها، فإننا نشك في قدرتها على تجاوز "البنى الأيديولوجية العميقة" التي تحكمها (رغم تصريفها بمفردات وإشكالات سياسية مخاتلة)، وكذلك نشك في وعي هذه الأطراف بمسؤولياتهم التاريخية بحكم إصرارهم الواضح على إهدار هذه الفرصة للقطع مع منظومة الفساد، باعتبار الفساد هو القاسم المشترك بين أغلب الخيارات الكبرى للجمهورية الأولى.