هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عند الإعلان عن النتائج الأولية لانتخابات تونس الرئاسية، قال المعلقون علهيا، هذه نتائج عقابية، مثلما قال فرونكوش الجزائر في انتخابات 1990 1991، ولكن الفرق بين ذلك التعليق الجزائري والتعليق التونسيي اليوم، أن التعليق الجزائري قال إنها انتقام من النظام ومن حزب جبهة التحرير الوطني، الذي كان يحكم طيلة سنوات الاستقلال 1962/1989، أي إن الذين صوتوا لصالح حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ –الحزب الفائز بالأغلبية-، صوتوا انتقاما من النظام الحاكم وعقوبة له، وليس أكثر من ذلك. أما التعليق التونسي اليوم لم يفصح عن الجهة المعاقبة، أهي النهضة صاحبة الأغلبية؟ أم هي التجربة الجديدة لتونس ما بعد الانتفاضة؟ أم هم الأحزاب؟ أم هو النظام الذي لم يتغير كثيرا حزب البعض؟
إن فكرة
التصويت العقابي، هنا أو هناك، ليست صحيحة؛ بل مغرضة لأنها همشت موقف الشعب العفوي
والمدرك لما يصلحه، قد تكون هناك نسبة من الهيئة الانتخابية تصوت لصالح تيار
انتقاما من تيار آخر، ولكنها تكون نسبة قليلة، وليست عامة كما تريد بعض الطوائف
الأيديولوجية، والتسليم بتلك الفكرة الغريبة استهانة بالشعب وتعبير عن عدم احترامه
وتقديره؛ بل لا يعتبر الشعب عند هؤلاء إلا مجرد رقم ترجح به الكفة وتُلوى به
الأذرع المستعصية. أما كونه مواطنا ويعي ما يجري ويدري ما يريد، وله القدرة على
الاختيار الموفق، وعلى ما يتوسم فيه الخير، فلا اعتبار له لدى هذه الشرذمة
المتنفذة في الإدارة وفي دواليب السلطة، بلا امتداد شعبي يثبت أهميتها.
ومن جانب آخر، فإن هذا المنطق لا يقف عند الاستهانة بالشعب فحسب، وإنما يتعداه إلى تسفيه الطبقة
السياسية برمتها؛ لأن الطبقة السياسية في نظر هؤلاء، هي مجرد ممثلين لأدوار
يؤدونها كما يُطلب منهم فقط، فلا يوجد من بينهم صاحب مشروع، ولا من يفكر في
الشعب، ولا من يمكنه التجاوب الفعال مع مطالب شعبه، ومن ثم لا ثقة في أحد منهم،
ودور الشعب في النهاية الانتقام من الجميع، بحيث يؤدي دور المنتقم وكفى. وبالمختصر غير المفيد، إن الجميع يمثل ويكذب على الجميع، وكأنهم في فيلم يتمتع الجميع
بمشاهدته، في حملة انتخابية استعراضية وعملية انتخابية، يسب في نهايتها الجميعُ
الكلَّ، ويلعن الكلُّ الجميعَ، ويفوز الفائز بفضل انتقام الشعب من خصم الفائز.
الشعب في تونس اختار من رآه مناسبا، في انتخابات نزيهة وشفافة، لم يطعن فيها أحد، وسيختار من يراه الأنسب في الدور الثاني؛ بل إن اختياره فعلا واعٍ، ومعبر عن توجه شعبي، قد يكون جديدا في بعض جوانبه، على الأقل في شكله، بحيث يمكن تطوير هذه التجربة وترقية مضمونها، ولكن هذا الاختيار في الوقت نفسه غريب، في ثنائية تبعث على الحيرة والاندهاش، فتحتاج إلى قراءة جادة بعيدة عن فكرة الاصطفاف لفك ألغازها أو على الأقل فهمها، ومن غير انتقام أو عقوبة شعبية لطرف سياسي، وهي الثنائية التي جعلتني أتساءل: ما الذي يجري في تونس؟
السباق في
الدور الثاني لرئاسيات تونس سوف يكون بين رجل مستقل غير حزبي، ومترشح مسجون،
رأت الهيئة العليا للانتخابات في تونس، أن وجوده في السجن لا يمنعه من الترشح
ومواصلة خوض السباق في دوره الثاني، رغم أن التهمة الموجهة إليه أخلاقية وليست
سياسية.
في هذا
المشهد مشكلتان في تقديري: مشكلة سياسية نضالية، ومشكلة أخلاقية.
أما المشكلة
النضالية السياسية، فتتمثل في اختفاء الثقل الحزبي في السباق الرئاسي، لا سيما
والتجربة النضالية في تونس ليست جديدة، ووجود تيارات سياسية وأحزاب من جميع
التوجهات قديم وعريق، ومع ذلك اختفت جميع التيارات وأحزابها لصالح مترشح مستقل لا
علاقة له بالأحزاب، وهذا غير طبيعي؛ لأن ما هو طبيعي أن المرشح للفوز هو
التيارات المتكتلة في أحزاب، وهذا لا يعني أن المترشح المستقل فاقد للمصداقية،
وإنما لأن المستقل في العادة غير معروف، ويحتاج إلى وقت حتى يُعرِّف بنفسه، أما
أن يترشح ويفوز متجاوزا الجميع فهذا غير معهود، إلا بمبرر سياسي قوي ينبئ بمشكلة
سياسية ثم أخلاقية في التشكيلات الموجودة على أرض الواقع؛ كأن يُسند المترشح
المستقل ببعض الحزبيين الذين تخلوا عن أحزابهم بهذه المناسبة، فيما يعرف في النضال
السياسي بـ”الطيور المهاجرة”، وهنا تظهر المسؤولية الأخلاقية لهؤلاء الحزبيين،
تجاه مناضليهم وأحزابهم التي بنوا فيها أمجادهم.
أعيد وأكرر بأنني مع الشعب التونسي في خياره لرجاله؛ لأن الشعب سيد في خياراته السياسية،
ولكنني أطرح إشكالية في مجتمعاتنا الإسلامية، ففي الجزائر مثلا ترشح عبد العزيز
بوتفليقة في سنة 1999، ولا أحد يعرفه من الجيل الجديد، أي من الجيل الذي ولد في
سنوات اعتزاله العمل السياسي في ثمانينيات القرن الماضي، كمرشح مستقل أطلق عليه
مصطلح “مرشح الإجماع” يومها، فكانت هذه العملية من أسوأ ما شهدت في الحياة
السياسية في الجزائر، حيث زُوِّر لبوتفليقة بدعم ثلاثة أحزاب رئيسية في البلاد؛ هي
جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديمقراطي، وحركة مجتمع السلم، فيما عرف
بالتحالف الرئاسي فيما بعد.
في مثل هذه
التجربة، لا يعاب على بوتفليقة فيما فعل، وإنما يعاب على هذه الأحزاب التي غررت
بمناضليها، وساقتهم إلى مسلخ سياسي رهيب، بحيث تحولت هذه الأحزاب خلال 12 سنة على
الأقل، إلى مقاولات في إطار مشروع الرئيس، وكذلك في تونس العيب ليس عيب المترشح
المستقل، وإنما هو عيب الأحزاب؛ لأنها فشلت، أو تشتتت وتمزقت، أو أنها خانت
مناضليها في جانب ما أو مناسبة ما أو في تجربة ما…إلخ.
ولو وقف
الأمر عند فشل الأحزاب في تقديم مرشح يملأ العين لهان الأمر، ولكن العيب والعار أن
تهزم الأحزاب –العريقة منها خاصة- في سباق أفرز شخصية أكاديمية غير معروفة في
النضال الحزبي، وإلى جانب هذه الشخصية غير المعروفة بالقدر الكافي، شخصية أخرى
قابعة في السجن بتهمة تبييض الأموال!! وهي تهمة أخلاقية لا علاقة لها بالسياسة.
كان يمكن أن
يترشح مسجون ولا يحصل على أصوات، فيكون الأمر بمنزلة الأرنب أو العمل التهريجي،
لإضفاء المصداقية على الانتخابات، أما أن يترشح سجين ويحصل على كم من الأصوات
يؤهله لخوض سباق الدور الثاني، فمشكلة؛ إما أن التهمة غير صحيحة، وهنا يكون
تصويت الشعب بمنزلة الحكم بالبراءة، حتى وإن لم يفز بالرئاسيات، وإما أن التهمة
صحيحة، ويكون انتخاب الشعب عليه فيه خلل في “واحد من منعرجات علاقة هذا الرجل
بالشعب”. قد يفوز هذا السجين، ويوقع المحكمة في مأزق سجين يرضى عنه الشعب!!
ذكرني هذا المشهد بقصة سلطان العلماء العز بن عبد السلام، مع
المماليك الذين استولوا على السلطة، وهم لا يزالون عبيدا، فأفتى العز بن عبد
السلام بعدم صحة حكمهم؛ لأنهم عبيد ولا بد من أن يعتقوا أولا، ليستعيدوا حريتهم،
فيصح حكمهم وتصح قيادتهم للمجتمع. ماذا يقول القضاء التونسي عندما يفوز القروي
بالرئاسيات؟ بل ماذا يقول حتى لو لم ينجح، لأن المرتبة الثانية في سباق
الرئاسيات، لا تقل أهمية عن مرتبة الفائز بها؟!
ومهما يكن موقف القضاء التونسي، فإن الساحة السياسية في تونس لا
يعفيها من الإجابة على هذه التساؤلات والإشكالات السياسية والأخلاقية. وإذا
تفهم المتابع المفاجأة التي أحدثها “قيس سعيد”، بسبب إحاطته بطبقة من الشباب مهمة،
التي تمثل الطاقة الحية في كل مجتمع، فإن إشكالات المترشح السجين تبقى قائمة في
شقيها السياسي والأخلاقي، مما يجعلنا نتساءل بقدر كبير من الحيرة والحب والتقدير
للشعب التونسي والشقيقة تونس، ما الذي يجري في تونس الخضراء؟
عن صحيفة الشروق الجزائرية