تشكل العمليات الفردية للمقاومة الفلسطينية نمطا متجددا في المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي، ورغم استحواذ
المقاومة في الضفة الغربية على هذا التكتيك خلال السنوات الثلاث الماضية معتمدة بشكل رئيس على وسائل غير عسكرية عبر عمليات الطعن والدهس، واستخدام السلاح الناري في بعض العمليات، إلا أن التطور اللافت خلال الشهر الأخير هو انتقال هذا النمط إلى غزة، رغم اختلاف ظروف وبيئة المقاومة بين الضفة والقطاع. فما الذي يدفع مقاتلين منخرطين في صفوف أجنحة عسكرية للجوء إلى العمليات الفردية في قطاع غزة؟
لقد ابتدعت المقاومة في الضفة الغربية أسلوب العمليات الفردية مضطرة، لمواجهة القبضة الأمنية المشددة من الثنائي
الإسرائيلي والفلسطيني، وشكلت حالة استنزاف للاحتلال على مدار السنوات الماضية. وتشير إحصائيات مراكز بحثية إلى أن المقاومة الفلسطينية نفذت خلال عام 2018 العديد من العمليات المؤثرة في الضفة والقدس؛ كان من أبرزها: 40 عملية إطلاق نار، و33 عملية طعن ومحاولة طعن، و15 عملية دهس ومحاولة دهس، و53 عملية تم فيها إلقاء أو زرع عبوات ناسفة، و262 عملية إلقاء زجاجات حارقة صوب آليات ومواقع الاحتلال العسكرية وصوب مستوطنيه.
وقد أدت أعمال المقاومة في مجملها لمقتل 11 إسرائيليا وإصابة 159 آخرين، في مقابل ذلك استشهد 36 فلسطينيا وأصيب 3110 آخرين.
في هذه الأثناء، تشكل العمليات الفردية في غزة تحديا أمام فصائل المقاومة من جانب، والاحتلال من جانب آخر. فهي من الزاوية الفلسطينية توصف بأنها عمل مقاوم بطولي، لكنه متمرد على قرار الإجماع التنظيمي، وغرفة العمليات المشتركة لأجنحة المقاومة، بينما تمثل للاحتلال مأزقا جديدا أمام محدودية الخيارات، بين الرد العسكري الموضعي أو الذهاب إلى مواجهة واسعة رغم جنوح فصائل غزة، وعلى رأسها حماس، للتهدئة.
في القراءة الأولية للنسخة الغزية من العمليات الفردية، يتضح أن أربع عمليات نفذت بشكل ارتجالي، حاول المقاومون خلالها التسلل عبر السياج الفاصل والاشتباك مع قوات الاحتلال.
وزمانيا، بدأت العمليات منذ الأول من آب/ أغسطس وحتى 17 من نفس الشهر، استشهد خلالها تسعة مقاومين وجرح ثلاثة من جنود الاحتلال. ولا يبدو أن الظاهرة سوف تنتهي قريبا رغم رفع الغطاء التنظيمي عنها.
لقد حققت عملية الشهيد هاني أبو صلاح، باكورة العمليات المسلحة الارتجالية على حدود القطاع، نجاحا نسبيا بتمكن المقاتل من عبور السياج والاشتباك مع جنود الاحتلال وجرح ثلاثة منهم، لهذا أثارت العملية جدلا داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية باعتبارها إخفاقاعملاتيا. وبحسب صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، فقد أشارت التحقيقات إلى أن أربعة من جنود لواء جولاني رفضوا مواجهة أبو صلاح، والدخول في اشتباك معه، معللين بأن ذلك قد يمس بهم ويتسبب في معاقبتهم. وأظهرت التحقيقات أيضا أن سلوك الجنود لم يقتصر على ذلك، فهم لم يقتربوا من المنطقة التي أصيب فيها قائدهم المباشر، وتركوه يواجه مصيره وحيدا.
وهكذا مثلت عملية أبو صلاح حافزا لآخرين، ما دفع أربعة من المقاومين في 10 آب/ أغسطس الجاري لمحاولة اجتياز السياج الفاصل شرق مدينة دير البلح وسط القطاع، لكنهم استشهدوا بعد رصدهم من مواقع الاحتلال. وفي اليوم التالي (11 آب/ أغسطس)، أعلن عن استشهاد مقاوم بعد اشتباك مع مع الجنود قرب السياج الفاصل شمال قطاع غزة، ثم جاءت المحاولة الرابعة مساء 17 آب/ أغسطس، حينما أعلنت قوات الاحتلال أن مجموعة من المقاتلين خاضوا اشتباكا مسلحا مع الجنود شمال قطاع غزة، ما أسفر عن استشهاد ثلاثة من المقاومينن.
التحقيقات الداخلية التي أجرتها المقاومة أظهرت أن العمليات الثلاث الأولى نفّذها أفراد من الجناح العسكري لحركة حماس، بتخطيط ذاتي لحظي، ومن دون تعليمات من القيادة العسكرية. كذلك، بيّنت التحقيقات أن المنفذين استخدموا سلاحا رسميا تملكه الحركة، وفي العملية الأخيرة اتضح انالشبان الثلاثة، الذي نفذوا عمليات يوم 17 آب/ أغسطس ينتمون إلى ثلاث فصائل فلسطينية، هي: "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"فتح"، ما يعني دخول عناصر من تنظيمات أخرى على خط العمليات الفردية.
لكن ما هي الأسباب التي أخرجت هذا النمط من العمليات إلى ميدان المواجهة، وفي هذا التوقيت؟!
يمكن استخلاص بعض الأسباب الأولية بناء على معطيات الواقع الراهن في قطاع غزة، حيث تآكل فعاليات مسيرات العودة واستنفاد دورها كوسيلة مقاومة خشنة لدى الشبان الذين كانوا جزءا من حالة الاشتباك على الحدود نهارا، وضمن مجموعات الإرباك الليلي. وعليه، يبدو أن هذه النوع من العمليات الارتجالية خرج من رحم مسيرات العودة التي أكسبت الشبان الجرأة في اختراق السياج الفاصل خلال فعالياتها الأسبوعية، واكتشافهم ثغرات في المنظومة الأمنية مكنتهم عدة مرات من التسلل عبر السياج إلى الأراضي المحتلة عام 48، والقيام بحرق وتخريب مواقع ودشم الاحتلال. هذا بالإضافة إلى التمجيد والنجاح التي لاقته العملية الأولى للشهيد أبو صلاح شرق خانيونس، رغم عدم تبنيه تنظيميا، ما أعطى ضوء أخضر لبعض العناصر.
أما السبب العام فيكمن في عدم شعور القاعدة الجماهيرية وخصوصا الشباب، بتغير جوهري وملموس على حياتهم بعد تطبيق تفاهمات التهدئة، التي أصبحت علاجا موضعيا بطيئا ومؤقتا للحصار دون أن تنهيه.
الموقف الراهن والعلني لفصائل المقاومة، تجاه هذا النمط من العمليات على حدود قطاع غزة، يتلخص في عدم تبنيها، مع اعتبارها عملا مشروعا، في ظلّ تصاعد الإجرام الإسرائيلي في الضفة والقدس وغزة على السواء، لكن خلف الأبواب وفي أروقة المقاومة الداخلية، هناك قلق من أن تتحول هذه العمليات إلى ظاهرة خارجة عن السيطرة، تقود القطاع إلى مواجهة غير محسوبة.
الفصيل الأكبر الذي يقود المشهد السياسي والعسكري في غزة، وهو حركة حماس، يستطيع اليوم تحميل الاحتلال المسئولية عن هذه العمليات الفردية. ولطالما حذرت حماس الاحتلال بشكل علني أو عبر الوسطاء من تصاعد مخاطر الانفجار، جراء استمرار مماطلة الاحتلال في تطبيق تفاهمات التهدئة في غزة، أو نتيجة لتصاعد جرائم المستوطنين وقادة اليمين الإسرائيلي بحق المسجد الأقصى ومدينة القدس.
ورغم ذلك، يبقى السؤال الأهم: ماذا لو نجحت إحدى هذه العمليات الارتجالية بإيقاع خسائر كبيرة في صفوف الاحتلال على حدود القطاع؟
فلسطينيا، قد تتحول هذه العمليات إلى الضغط على حماس وتضعها في الزاوية، فإما الانجرار إلى مواجهة عسكرية (محدودة أو واسعة)، أو اتخاذ موقف أكثر حسما وحزما ضد هذه العمليات، والتصدي لمنفذيها.
أما إسرائيليا، فإن ردة فعل الاحتلال اقتصرت حتى الآن على تكرار التهديدات والتوعد بعملية عسكرية واسعة، وصولا إلى التبرير الرسمي لسياسة "ضبط النفس" بأن البديل هو تساقط الصواريخ، ما يعني أن الاحتلال أيضا سيواجه محدودية خياراته، لكن ذلك قد يتغير لو تم تسجيل إخفاق أمني وعسكري كبير يسببب خسائر في صفوفه على حدود غزة.
وعليه، قد لا تصمد الصيغة الحالية للتعاطي مع هذا النمط من العمليات، وهي أن تحمل حماس الاحتلال المسؤولية، بينما يكتفي الأخير بقتل المقاومين، خصوصا إذا كان وقوع العملية القادمة مسألة وقت. كما أن التطورات الميدانية قد تدفع الاحتلال للتغطية على فشله وإخفاقه العسكري بتنفيذ جزئي لتهديدات قادته من المستوى السياسي والعسكري، ويبدو الأمر أكثر خطورة مع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية منتصف أيلول/ سبتمبر القادم.
فهل تقود العمليات الارتجالية حماس والاحتلال نحو المواجهة القادمة؟