ليس فقير اللقمة مثل فقير الوطن، فجائع البطن غير مكسور الظهر.
أزعم من غير يمين (وهو القسم) أو يسار، أنني فكرت باكراً جداً في السنة الثانية أو الثالثة من الثورة السورية أنه لم يبق أمام الثورة السورية، القسم السياسي والمدني النازح منها، سوى استعطاف الغرب وتسوّل رحمته التي أصبحنا تحت كعبها؛ بالبطون الخاوية والأمعاء الخالية، ولكني لم أبح بفكرتي لا في مقال ولا في منشور، وهذا يضعف خطابي وزعمي..
المعدة الخاوية، أو الجوع والركوع كما في
سوريا، غير مجدية.. أصلاً التجويع أحد أسلحة النظام في التركيع، لكن أرضنا غير أرضهم، والجوع في
أوروبا غير الجوع في الأرض المباركة. وكانت فكرتي التي أطلقها متأخراً رئيس المجلس المحلي السابق للقسم المحرّر من مدينة حلب، بريتا حاجي حسن، في أوروبا وانضم إليه سوريون؛ أن يبتدرها زعماء الثورة السورية وقياداتها في الائتلاف والمجلس الوطني، ووجوه الثورة الفائزين بالجوائز الأدبية وجوائز التكريم الأخرى، من استقبالات ملكية أو المكرمين بتسمية شوارع أمريكية بأسمائهم، وهم من الأصحّاء، المورّدة خدودهم من النعمة والبطر الإعلامي، يصح فيهم القول الصحي الشهير: الصِّحَّةُ تَاجٌ على رؤوس الائتلاف لَا يَرَاهُ إِلَّا الْسوريون.
وأن يكون في صدارة الصائمين الأقليات الطائفية منهم خاصة، والأقلية القومية أقل رتبة في عين الغرب من الأقلية الطائفية، وهنا مربط الذئب. وكنت أفكر في فكرة أخرى، وهي أن تصوم القيادات السورية وهي عارية مثل طرزانات، كما تفعل حركة "فيمن" النسوية في الغرب بتعرية الصدور. كانت كثير من القيادات قد سعدت بالرحلات إلى عواصم الغرب ومقابلة رؤساء العالم، ثم أمسى الشعب السوري يموت جوعاً في دوما وداريا وبقية المناطق المحاصرة.
العين الغربية عين تشبه عين الحيوان أو عين الحشرات، أحياناً مثل عين الذبابة، ترى عبر موشور أو كريستال، ربما مثل عين السبع تختلط فيها خطوط حمر الوحش، فلا يكاد يميز بعضها من بعض. في فيلم "بريداتور" الذي يمثل بطولته أرنولد شوارزينغر، نرى وحشاً معدنياً فضائياً في غابة، غريزته القتل، يكتشف أرنولد، وهو مقاتل أمريكي، مصادفة أن الوحش الآلي أعمى طين، لا يرى ضحيته إذا كانت مصبوغة بالطين، فيدهن نفسه بالطين ويتنكر، فينجو وينتصر. فكرة الفيلم: الحرب خدعة.
ينهى الكتاب المقدس عن الظلم ويحض على العدل عندما يقول: "لِماذا تَرَى القَشَّةَ فِي عَينِ أخِيكَ لَكِنَّكَ لا تُلاحِظُ الخَشَبَةَ الكَبِيْرَةَ فِي عَينِكَ أنتَ؟".. والغرب، وقد بات العالم قرية صغيرة كما يزعمون، لا يرى بعين البرايدتور كل المذابح التي وقعت في سوريا، ومنها الكيماوي التي يبغضها الغرب ويغضي عن القتل التقليدي، ومنها مذابح بالكاميرا البطيئة في ميدان رابعة هو الذي موّلها، أو سكت عنها. فالغرب يحب "الشو"، والتطهر عبر الدم، فوكيله الموضوعي، أو المكلّف بالحكم في البلاد العربية المحتلة بالنيابة، هو الذي يقوم بها، وهي لصالح الغرب، والضحايا مسلمون.
غرب متطور متقدم يعني شرقا متأخرا متهدما. لقد طلب رئيس الغرب وقائده الأمريكي، ترامب، إطلاق المواطنة المصرية آية حجازي التي تحمل الجنسية الأمريكية، ففعل السيسي واستجاب لأمر سيده الأشقر، وحصلت الصفقة العجيبة: حررت آية ونال السيسي الشكر وحاز ترامب على جائزة معنوية هي "الرئيس الصالح الذي يرعى رعاياه"، وتوتة وتوتة وخلص الظلم ووقعت النهاية السعيدة. ومثل ذلك محمد سلطان الذي تأخر إطلاق سراحه؛ لأن عين الغرب عين برايدتور، مثل عين السبع أو عين الذبابة، فمحمد سلطان ذكر، وليس الذكر كالأنثى، وكان فرعون يذبح الأبناء ويستحيي النساء.. النساء ضعيفات، وللغرب وفرعون في النساء مآرب أخرى، ومحمد سلطان، وإن كان ليبرالياً فوالده إسلامي، وهذا يثير الشبهة، ويكثر الطين ويقلل الرؤية في عين البرايدتور، وأطلق سراحه متأخراً.. وسعد الدين إبراهيم من قبل، وكان أحد أهم المعارضين لمبارك في التمثيلة الأمريكية، لكن عين الغرب تزداد رؤية إذا كان الصوم في أرض الغرب الشبعان.. ولم ينتصر غاندي بالصوم وحده، انتصر بالملح أيضاً والمظاهرات العملاقة والدم، وكان الشعب معه. فهناك في الغرب منظمات وإعلام ومجتمع، والنضال يحتاج سوى الصوم إلى جهد إعلامي كبير وصداقات، وإلا تحوّل إلى ما يشبه نمرة حزينة في محطة قطار أوربية، لا يجاوز أثره الركاب والمسافرين.
حاربت الأنظمة العربية الإعلام الغربي، والنشطاء الغربيين الملوّنين، فقتل النظام السوري عباس خان والفرنسي ريمي أوشوليك والأمريكية ماري كولفين، وقتل النظام المصري ريجيني، ولم تبق سوى تقارير الجزيرة التي كان يرسلها فدائيون.. شهادة العربي المسلم غير مقبولة، أو مشكوك بصحتها، بقي أمريكي أخير في مناطق الثورة ينقل التقارير لكنه أسود، اسمه العربي بلال عبد الكريم، والعين الغربية البرايدتور لا ترى السود بشراً، أو تراهم أقل، وهو مسلم أيضاً، وهذا يزيد الطين بلّة ويفسد رؤية البرايدتور الصحيحة.
لقد حاول الشعب السوري بما في وسعه من المكر والكيد، فطيّن وجوه الثورة، وصدّر يساريين في قمة الثورة وقيادتها مثل برهان غليون وبسمة قضماني ومسيحين مثل ميشيل كيلو وجورج صبرة، وأقليات مثل عبد الباسط سيدا، وعبد الحكيم بشار، ولو استطاع أن يصدر مجوساً أو كفاراً لفعل، لكن قلب الغرب حجر وعينه برايدتور. الغرب أذكى، وهو يدرك أن القاعدة الشعبية غير القيادة المطينة بطين، فصبر حتى ظفر.
الغرب كان يطبخ الشعب السوري على نار غير هادئة، جاع الشعب وقضى بالبراميل والكيمياء، ومن بقي حيّاً ينتظر حسنات الأمم المتحدة، والبرايدتور ينظر ويرى ويضحك، ولم يبق سوى الصوم في بلاد الغرب بالمعدة الخاوية. والغرب هو غرب حواس خمس، والضمير معدوم لدى القادة.. انظر كيف يستقبل مهرجا مثل السيسي، بل لنقل انظر كيف تبنى قيادات مثل السيسي، وحفتر، وابن سلمان، وكلها قيادات عسكرية "رابيش".. لقد عجزنا بالفعل عن الفعل، ولم يبق سوى التَرك، والصوم نضال العاجزين.
يستغرب المواطن الأوروبي صوم المسلم في رمضان، ومن مشاهداتي أن جارة ألمانية دهشت من صوم جارتها المسلمة ورفعت هاتفها لتطلب سيارة الإسعاف، ولم تجد للصوم الإسلامي القاسي تفسيراً، فكيف يصوم المرء عن الطعام، وإن كان مفهوماً الصوم عن الطعام من أجل الوزن؛ لكن لمَ الشراب؟ الغربي لا يتحرك في الشوارع الظليلة، إلا ومعه زجاجة الماء، وكأنه أعرابي سيعبر الصحراء.. سيدة المانية تطوعت للصوم يوماً واحداً في يوتيوب معروف، وأصيبت برهاب الجوع شهوراً عدة، وما زالت تستيقظ مذعورة من الجوع. فهل سيؤثر صوم مئة فدائي سوري على ضمير الغرب وعلى أرضه وبين جمهوره، والأرض الغربية غير الأرض العربية، الأرض الغربية لها حرمة ليست للأرض العربية المستباحة؟
هل يمكن أن تتحول إلى ظاهرة يتطوع لها سوريون، في أرض تكثر فيها الخيرات، والصوم فيها شاق؟ المعدات الخاوية كانت مجدية مع إسرائيل لأنها دولة منسوبة للغرب وللديمقراطية، لكن الصوم صوم نازحين، وليس صوم أوروبيين.. لو كانوا أوروبيين لاختلف الأمر، وهو في أدنى الأحوال اعتذار للشعب السوري عن قلة الحيلة، والهوان على الناس، وتأكيد الجدارة الإنسانية، وغسل للذنوب. في قصة زكريا تامر ينجح المروّض في جعل النمر يرقص ويصفق، والنمر بات يعرض نمرته في أرض الغرب، ويقول أنا مستعد للرقص والتصفيق، فقط أوقفوا القصف. سيصوم هؤلاء الأبطال، ويسعفون إلى المشافي، ويصبح الإسعاف منظراً مألوفاً، وبلا قيمة مثل المذابح السورية.
لقد انتهى عصر السيرك الغربي، والمسلم هو حيوان السيرك الغربي المفضل، والمعدة الخاوية تعيدنا إلى أسس الصراع على سرقة خيرات الشعوب. لقد نزحنا من شعار "الشعب السوري ما بينذل" إلى "لله يا محسنين أوقفوا القصف وإلا سنجوّع بطوننا أسبوعاً، ثم نسعَفُ بعدها إلى المشفى لنستعيد الصحة والعافية".. المجد الإعلامي مجد مستحق عن جوع اختياري في بلاد الشبع.
سوريا ليست مثل فلسطين، فهي تحت سبعة أنواع من الاحتلال، أظلمُها الاحتلال الوطني، ولن نظلم قيادات الثورة السورية بالقول:
"يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".
وليس يأسا أن نتمنى الفوز للفريق الجزائري بكأس الأمم الأفريقية، في معمعة الهزائم الكبيرة.