انطلقت
الحملة الفعلية لانتخابات الإعادة على رئاسة بلدية إسطنبول في الأسبوع الثاني من حزيران/
يونيو الجاري، مع بدء عودة المواطنين من إجازة عيد الفطر الطويلة نسبياً التي
استمرت عشرة أيام تقريباً، ثم بلغت الذروة مع المناظرة الانتخابية الأحد الماضي بين
المتنافسين الرئيسيين، بن علي يلدريم وأكرم إمام أوغلو، ويفترض أن تتوقف الحملة القصيرة
بعد يومين، أي بنهاية الجمعة القادمة، حيث يسود الصمت الانتخابي استعداداً للأحد
الكبير الحاسم في 23 حزيران/ يونيو.
حسب
القانون الانتخابي، فقد استمرت المنافسة بين المرشحين أنفسهم (لا يحق للأحزاب
تغيير مرشحيها وبإمكان هؤلاء الاستقالة أو رفع أسمائهم في حالة الوفاة)، فبقي مرشح
حزب السعادة الإسلامي، إلى جانب مرشح حزب الوطن ومجموعة من المستقلين المغمورين، والتنافس
الرئيسي بالتالي سيستمر بين المتنافسين الرئيسين يلدريم، مرشح حزب
العدالة والتنمية
الحاكم (مدعوماً من حزب الحركة القومي اليميني)، وأكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب
الجمهوري المعارض (المدعوم من أحزاب المعارضة الرئيسية: الحزب الجيد، القومي، وحزب
الشعوب الديمقراطي ذا التوجهات الكردية).
وعموماً؛
فقد اتضحت خلال الفترة الماضية المعالم العامة للحملة الانتخابية التي لم تشهد تغيّرا
كبيرا عما رأيناه في
انتخابات آذار/ مارس الماضي، التي قررت اللجنة العليا للانتخابات
إعادتها بعد حدوث مخالفات إجرائية؛ رأت أنها أثّرت على النتيجة النهائية الملغاة
التي أشارت الى تفوق أكرم أوغلو بفارق طفيف على منافسه.
من
جهة الحزب الحاكم، استمر بن علي يلدريم في تقديم نفسه بصورة السياسي المجرّب الهادئ
الرصين الذي ساهم (مع الرئيس أردوغان) في تنمية المدينة تطويرها ونهضتها خلال
العقدين الماضيين، والذي يعرف جيداً أزماتها مشاكلها ويملك الحلول الناجعة لها.
إلى
ذلك، تكمن الإشارة في متغيرين، بل ثلاثة متغيرات، طبعت الحملة الانتخابية للحزب
الحاكم؛ أوّلها غياب الرئيس أردوغان عن المشهد الانتخابي هذه المرة، والاكتفاء بحضور
يلدريم بنفسه. هذا يعود إلى أن الرئيس بذل جهدا كبيرا في الحملة الماضية، كما للانشغال
بجدول أعمال مزدحم ضاغط جداً مع توالي وتراكم التحديات السياسية الخارجية، والأهم ربما
الرغبة في الابتعاد عن خسارة محتملة للحزب الحاكم والتصرف على قاعدة رابح رابح في الحالتين،
سواء فاز يلدريم أو خسر، مع قبول الحسم الديموقراطى من قبل أهل إسطنبول.
المتغير
الثاني تمثل بسعي الحزب الحاكم لاستعادة مؤيديه المقاطعين البالغ عددهم مليون ناخب،
ربعهم تقريباً في إسطنبول، ومشاركتهم كانت لتوفر فوزا مريحا ليلدريم من الجولة الأولى.
والمقاطعة تعود طبعاً لعدة أسباب؛ منها الاحتجاج على إقصاء القادة المؤسسين وتغييبهم
عن المشهد الحزبي السياسي، كما الاعتراض على بعض المرشحين في الانتخابات البرلمانية
النيابية والبلدية السابقة، لذلك عمد الرئيس أردوغان إلى تشكيل مجلس استشاري رئاسي
موسع؛ ضم رؤساء برلمان سابقين، بمن فيهم رموز ومؤسسي الحزب بولنت أرنيتش ومحمد علي
شاهين، كما يجرى الحديث عن محاولة لإعادة ترتيب صفوف الحزب بعد الانتخابات والتصالح
مع المعارضين، الذين ما زالوا نظرياً أعضاء في الحزب، تحديداً رئيس الحكومة السابق
أحمد داوود أوغلو ومناصريه.
المتغير
الثالث يتعلق بالسعي لاستعادة أصوات الكردية في العاصمة الاقتصادية والتاريخية
لتركيا، والتي ذهب نصيب الأسد منها إلى مرشح المعارضة. من هنا جرى تخفيف القيود عن
الزعيم الكردي المعتقل عبد الله أوجلان، علماً أن هذا يجري ضمن منظور محلى وإقليمي
أوسع يتعلق بالتطورات في سوريا والمنطقة.
بالنسبة
لمرشح المعارضة أكرم أوغلو، فالسياق العام للحملة كذلك هو نفسه، حيث الحيوية الفائقة
والحركة المستمرة، وتقديم نفسه كمرشح الأمل والتغيير نحو الأفضل، والحرص أيضاً على
التواصل مع الشرائح السكانية على اختلاف انتماءاتها وخلفياتها.
فى المعارضة أيضاً، ورغم
الحديث عن اختلاف بين المرشح الشاب والقيادة الهرمة المترهلة لحزب الشعب، إلا أن هذه
جرى كنسها (تحت البساط الحزبي)، أقله إلى حين انتهاء الانتخابات، خاصة أن الاستطلاعات
والتوقعات ما زالت تعطيه فرصة جدية له للفوز.
أما المتغير الأساسي في حملة أوغلو فيتعلق بخطاب المظلومية والمسؤولية
لديه.. المظلومية مع قرار إلغاء فوزه وإعادة الانتخابات، والمسؤولية الشخصية
الحزبية والوطنية في تقبل القرار، وعدم إحداث أي هزة سياسية أمنية أو اقتصادية تؤثر
على الاستقرار في المدينة والبلد بشكل عام.
لا يمكن
طبعاً تجاهل المناظرة التاريخية بين المرشحين الأحد الماضي، لكن ليس هناك الكثير مما
يمكن قوله عنها؛ سوى تأكيدها على المشهد الديمقراطي في
تركيا، كونها سارت بسلاسة ورقي،
وانتهت إلى ما يشبه التعادل، حيث كان أكرم أوغلو حيويا وحاضرا ومندفعا، لكن بمضمون
عادي غير مبهر، أو مفاجئ، بينما يلدريم كان رصينا هادئا شكلاً، غنيّا مضموناً وواأيثقا
من نفسه وخططه وبرنامجه الانتخابي، لكنها (أي المناظرة) لم تنته إلى فوز ساحق، أو
تخلق وضعاً يسمح بقلب الموازين وتغيير شرائح انتخابية لموقفها ونواياها المسبقة بالتصويت
لهذا المرشح أو ذاك.
عموماً، فإن استطلاعات الرأي الأولية تتحدث عن تقدم أكرم
إمام أوغلو، بنسبة طفيفة جداً من اثنين
إلى ثلاثة في المئة، وهي فجوة صغيرة تسمح له
بالفوز، ولكنها تسمح أيضاً لحزب العدالة بتجاوزها، إذا ما نجح في استعادة تأييد
نسبة من المقاطعين، ونيل نسبة معتبرة من الأصوات
الكردية الكثيفة في إسطنبول.
في كل الأحوال، رغم الجدل حول قرار الإعادة ، إلا أن الأمور مرت بسلام حتى الآن، ويفترض أن تكون كذلك بعد الانتخابات التي ستكون الديمقراطية
هي الرابح الأكبر فيها. وأي كانت النتيجة، فإنها
لن تحجب الأزمة التي يعانيها الحزب الحاكم، وانفضاض
نسبة معتبرة لجمهوره من حوله، لدرجة أن يعاني
المخضرم المجرب صاحب الإنجازات بن على يلدريم ، أمام شاب لا يملك تاريخا سياسيا أو
خدماتيا كبيرا.