في أعقاب الاجتماع الأسبوعي للحكومة المغربية، يوم الخميس الماضي، سُئِل الناطق الرسمي باسم الحكومة عن صحة ما نشرته وسائل الإعلام عن مغادرة السفير الإماراتي للرباط على إثر "طلب سيادي عاجل" من حكام أبو ظبي، فرد أن "لا تعليق" له على الموضوع.
لا أهمية هنا لتأكيد أو نفي السيد مصطفى الخلفي، فالأكيد أنه لم يعلم بالخبر إلا من ذات وسائل الإعلام كأيها الناس. الخارجية مجال "سيادي" محفوظ للقصر الملكي كالداخلية والدفاع. والأكيد أيضا أن أزمة العلاقات المغربية الإمارتية لم يعد فيها للنفي مكان، بل إن بعض التطورات توحي بأنها أقرب ما تكون إلى "القطيعة" عكس نظيرتها مع السعودية التي حركت مياهها الراكدة رسائل واتصالات هاتفية حتى قيل إن زيارة تركي آل الشيخ للرباط تدخل في إطار تسوية الخلافات!
كلمة السر
قبل أسابيع قام وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة بجولة خليجية استثنى منها الإمارات في موقف لافت زادته التسريبات المتواترة عن زيارة ملكية مرتقبة لنفس المنطقة تستثني ذات البلد من برنامجها. الموقف المغربي إن تأكد مؤشر على أن "القطيعة" أقرب ما تكون إلى علاقات ظلت لعقود مبنية على التنسيق الدائم والتوافق الكلي على مختلف الملفات. التغير أملاه ما اعتبره بوريطة في ندوة صحفية أعقبت لقاء عاهلي المغرب والأردن، تنسيقا "تحت الطلب" قبل أن يعيد التأكيد على استقلالية القرار المغربي. الاستقلالية هي كلمة السر في الأزمة المتعاظمة بين أبو ظبي والرباط في زمن صارت فيه الأولى، متبنية لسياسات "عدوانية" لا تفرق بين عدو أو صديق ولا مجال فيها إلا للتبعية تأسيا بالسعودية ومصر والبحرين وغيرها من دول الهامش العربي.
لم تغفل إمارة أبو ظبي في سعيها المحموم لمواجهة ترتيبات ما بعد "الربيع العربي"، المنطقة المغاربية لما مثلته بلدانها من "استثناء" عن الردة العامة التي أعقبته. ولم تترك مجالا إلا وحاولت النفاذ منه لرهن قرار حكومات الدول المعنية أو الضغط عليها.
التطورات الأخيرة في ليبيا الساعية لإنهاء اتفاق الصخيرات، المدعوم مغربيا، واحدة من التجليات الواضحة لرغبة التحالف الإماراتي السعودي وتابعيه، في تقليم أظافر النفوذ الإقليمي للمملكة
في مقال سابق بعنوان (قطر المتآمرة على المغرب)، كنت أشرت لمحاولات التأثير الإعلامي الذي استثمرت فيه دولة الإمارات داخل المنطقة المغاربية خصوصا بتونس وليبيا، مع محاولات اعتبرت وقتها أنها جنينية قبل أن تتفجر الخلافات داخل المواقع المعنية بما فضح كثيرا من الخفايا، وانتقال عدد من المواقع المقربة من الإمارات، ليس بتر الصحراء من الحدود الجنوبية للمملكة في خرائط القنوات التي تبث من أبو ظبي إلا "لعب عيال" أمام مجموعة من المحاولات التي توالت في الفترة الأخيرة بشكل يؤكد أن الإمارات العربية، ومعها حلفاؤها على ما يبدو، تسعى لإرساء قواعد "اشتباك" جديدة مع حليفها "الاستراتيجي" السابق في شمال غرب أفريقيا. فكلما فشل الضغط الممارس على المغرب لتغيير مواقفه من عدد من الملفات الحارقة التي صارت مسألة حياة أو موت للإمارات، تظهر حقائق جديدة على الأرض تنم عن وجود خطة متكاملة سياسية وإعلامية واقتصادية وعسكرية ودينية لخنق المغرب على مختلف المستويات.
الإمارات ومساعي تقليم أظافر النفوذ الإقليمي للمغرب
ربما تكون التطورات الأخيرة في ليبيا الساعية لإنهاء اتفاق الصخيرات، المدعوم مغربيا، واحدة من التجليات الواضحة لرغبة التحالف الإماراتي السعودي وتابعيه، في تقليم أظافر النفوذ الإقليمي للمملكة. فالسعي لتتويج خليفة حفتر حاكما أوحدا لليبيا كامتداد استراتيجي للحكم العسكري بمصر، مع العمل الحثيث على تأبيد سيطرة أحمد قايد صالح، الذي يُقدم على أنه رجل الإمارات بالجزائر، بالنظر إلى ما حملته شعارات الحراك الجزائري المندد بالتدخل الإماراتي في توجيه مخرجاته على غير الوجهة التي ينشدها الشعب، بالإضافة إلى ما يظهر على أنه توجه مؤكد لتوريث حكم موريتانيا للعسكر، ممثلين بوزير الدفاع محمد ولد الغزواني، بعد انتهاء ولاية محمد عبد العزيز المنقلب على الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله قبل سنوات عشر، مع تواصل العمل للقطع مع مكتسبات ثورة الياسمين بتونس تمويلا ودعما سياسيا لورثة النظام البنعلي، سيناريو لو تحقق بالمنطقة المغاربية تكون النتيجة المباشرة له على المغرب تحول الحصار أمرا واقعا والمواجهة حتمية لا ريب فيها.
ولعل في توجه المغرب إلى تحديث قواته العسكرية وتكثيفه للمناورات العسكرية في الصحراء وعلى الحدود الجزائرية مع اختيار مناطق ذات رمزية خاصة مكانا لها، وإعادة العمل بنظام التجنيد الإجباري ضدا على بعض التحذيرات الأمنية لتبني هذا الخيار، ما يشير إلى توجسات مغربية خصوصا مع حديث وتسريبات عن سعي سعودي (إماراتي بالضرورة) لبناء قاعدة عسكرية بالجار الموريتاني.
تقليص النفوذ المغربي، الذي يمنحه القدرة على إشهار ورقة الاستقلالية في علاقاته الخارجية، يفترض التركيز على وجوده الأمني في منطقة الساحل وجنوب الصحراء ونفوذه الديني، عبر الطرق الصوفية المرتبطة روحيا بالمؤسسين المغاربة، والمدعوم بتوجه اقتصادي يجعل من أفريقيا عمقا استراتيجيا للمملكة، وهو ما يسعى المال الإماراتي المتدفق إلى المنافسة عليه.
النفوذ الديني في أفريقيا
تشكل منطقة الساحل وغرب أفريقيا شريانا حيويا يسمح للمغرب بالتغلغل في القارة الأفريقية والمنافسة على النفوذ هناك. لأجل ذلك، لم يكل المغرب في تدعيم أواصر الروابط الدينية بين جزء كبير من ساكنة المنطقة مع الزوايا الصوفية المغربية التي تدين بالولاء لإمارة المؤمنين.
أهمية النفوذ الديني لم تعد خافية على مختلف الفرقاء حتى أن الصراع على ولاء الزوايا تفجر بين المغرب والجزائر في السنوات الأخيرة بعد أن فطن الجزائريون لما يمثله ذلك من سلاح ساعد المغرب في المواجهة المحتدمة بين البلدين لتكريس توجههما الأفريقي.
تقليص النفوذ المغربي، الذي يمنحه القدرة على إشهار ورقة الاستقلالية في علاقاته الخارجية، يفترض التركيز على وجوده الأمني في منطقة الساحل وجنوب الصحراء ونفوذه الديني،
وبعد فشل أبو ظبي في اختراق المؤسسات الدينية الرسمية المغربية من خلال محاولات استمالة بعض منها للانضمام تحت لواء منتدى تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية، الممول إماراتيا، وفي توظيف علماء لمواجهة "الإسلام السياسي"، حركت الأخيرة منظمات أخرى مرتبطة بها كـ "مؤمنون بلا حدود" لتنظيم ندوات وأنشطة تنشر من خلالها رؤيتها للدين "الجديد" بما يناقض التوجه الديني الرسمي المغربي، وتبث نظرتها الاستئصالية للتجارب "الإسلامية" في الحكم. وبالنظر لمحدودية تأثير تلك المنظمات، كان لزاما التحرك خارجيا لقطع التمدد الروحي لإمارة المؤمنين بالجوار المغربي سواء من خلال ضخ استثمارات كبيرة بالمنطقة لـ "شراء" الولاء، أو التعهد بتمويل القوة العسكرية التابعة لـ "مجموعة الخمس بالساحل" الموكل لها مهمة "محاربة الإرهاب" الذي لا يحمل تعريفا محددا في الرؤية الإماراتية ـ السعودية الجديدة، وهو ما يؤكد السعي إلى موطئ قدم في منطقة كانت تاريخيا مجالا دينيا واستخباراتيا مغربيا محفوظا لاستمالة بلدانها كما تحقق بنجاح في الجار المغربي الجنوبي موريتانيا.
تشكل الإمارات واحدا من أهم المستثمرين في الاقتصاد المغربي، وكانت أيضا واحدة من أهم المانحين للبلد وفق اتفاقيات ثنائية أو مشتركة تربط المغرب بدول مجلس التعاون الخليجي. لكن يبدو أن الورقة الاقتصادية المباشرة لم تعد ذات تأثير كبير في القرار المغربي لتنوع الشركاء ولبعض المتانة الذي أظهرها الاقتصاد المحلي في مواجهة كثير من الهزات. لأجل ذلك، كان لزاما التركيز على ضرب الاختيارات الاستراتيجية الكبرى للبلد من قبيل السعي لإيجاد موانئ منافسة تضعف نمو قطاع الموانئ الذي حقق فيه المغرب قفزة نوعية مشهودة.
رمال الصحراء المتحركة كانت على الدوام سببا مباشرا في الأزمات الديبلوماسية التي كان المغرب طرفا فيها،
هكذا أظهرت أبو ظبي، الساعية أصلا للهيمنة على الموانئ الأفريقية، اهتماما كبيرا بتشييد وتسيير ميناء نواذيبو الموريتاني والمساهمة في تطوير ميناء العاصمة الجزائر المنافسين لميناء الداخلة المزمع تطويره بسواحل الصحراء المغربية جنوبا ولميناءي طنجة والناظور على البحر المتوسط شمالا. وبالنظر إلى أن مدينة نواذيبو متاخمة لحدود الصحراء المتنازع عليها، فالاهتمام الإماراتي يطرح علامات استفهام جيو-سياسية أكثر منها اقتصادية بالنظر إلى نزوع أبو ظبي المعروف لدعم الحركات الانفصالية التي تشكل جبهة البوليساريو واحدة من "أيقوناتها" العربية.
رمال الصحراء المتحركة كانت على الدوام سببا مباشرا في الأزمات الديبلوماسية التي كان المغرب طرفا فيها، وليس مستبعدا أن تكون ذات الرمال مفسرة لما آلت إليه العلاقات مع حليفيها في السعودية والإمارات ابتداء بالتقارير التلفزيونية إلى تحركات ممكنة تم رصدها على الأرض مع سعي البلدين إلى التأثير المباشر في المشهد السياسي والإعلامي عبر دعوات مباشرة لمديري المؤسسات الإعلامية وللفاعلين الحزبيين أو استقطابهم عبر السفارات وأجهزتها أو مختلف مؤسسات التدخل الناعمة التي قد تكون قناة (ام بي سي المغرب)، المزمع إطلاقها قريبا، باكورتها الأولى في انتظار المزيد..