هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كان أول الرصاص في قيادة أول عملية مسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وأول الحجارة في وضع أساس الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي ولدت معها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) رسميا وواقعا، وكان من مؤسسي حركة "فتح".
كان عقل الثورة الفلسطينية ورمز البندقية، وعنوان المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وقصة البدايات، وخاتمة النهايات في الاستشهاد في المنفى على أرض عربية.
لم يحقق حلمه بأن يدفن في تلال فلسطين أو سهولها، حيث دفن في مخيم اليرموك قرب دمشق في قبر لم ينجُ من نتائج الحرب في سوريا، ولم يستطع أن يقاوم تنظيم الدولة، الذي جرف قبور عدد من شهداء الانتفاضة الفلسطينية، وكان قبره من بينها.
كثيرا ما ردد عبارته الشهيرة: "البوصلة لن تخطئ الطريق، ستظل تشير إلى فلسطين". وبقيت كلمته هذه قولا وفعلا بالنسبة له، فلم تخطئ بوصلته فلسطين.
خليل الوزير، المعروف باسمه الحركي "أبي جهاد"، المولود في عام 1935 في بلدة الرملة الفلسطينية التي غادرها إلى غزة إثر حرب عام 1948، درس في جامعة الإسكندرية، ثم انتقل إلى السعودية، ومنها توجه إلى الكويت التي كانت محطة فارقة في حياته، فهناك تعرف على ياسر عرفات "أبي عمار" وساهم معه في عام 1963 في إعلان تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، وتولى مسؤولية العمليات في فلسطين المحتلة.
في العام ذاته، غادر الكويت إلى الجزائر لافتتاح أول مكتب لـ"حركة فتح" وتولى "أبو جهاد" مسؤولية مكتب الجزائر، ومن الجزائر توجه إلى دمشق، حيث أقام مقر القيادة العسكرية ليبقى قريبا من فلسطين، وكلف بتوجيه "الخلايا الفدائية" داخل فلسطين المحتلة التي باتت نواة لمقاتلين شاركوا في حرب حزيران/ يونيو عام 1967.
في فترة لاحقة، كلف بالمسؤولية عن القطاع الغربي في "فتح"، وهو القطاع الذي كان يدير العمليات في الأراضي المحتلة، وأثناء توليه قيادة هذا القطاع عكف على تطوير القدرات القتالية للمقاتلين الفلسطينيين، وكان له دور بارز في قيادة معارك بيروت في عام 1982 خلال الغزو الصهيوني للبنان.
وتقلد "أبو جهاد" العديد من المناصب خلال حياته، ولعب دورا محوريا في انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987، ومن هنا جاءت العبارة التي اشتهر بها: "أول الرصاص.. أول الحجارة".
وكان مهندس الانتفاضة الأولى، فهو من رسم برنامجها في رسالته الشهيرة بعنوان: "لنستمر في الهجوم، لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة، لا صوت يعلو فوق صوت منظمة التحرير الفلسطينيّة".
وأشرف "أبو جهاد" على الكثير من العمليات العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وشارك في تنفيذ عدد منها، وأبرزها عملية نسف خط أنابيب المياه في نفق "عيلبون" عام 1965، وعملية فندق "سافوي" في تل أبيب، وقتل 10 إسرائيليين عام 1975، وعملية انفجار الشاحنة المفخخة في القدس عام 1975، إضافة إلى عملية "الساحل" بقيادة الشهيدة دلال المغربي التي قتل فيها أكثر من 37 إسرائيليا عام 1978، وعملية قصف ميناء "إيلات" المعروف باسمه العربي "أم الرشراش" عام 1979، وقصف المستوطنات الشمالية بصواريخ "كاتيوشا" عام 1981.
على الجانب الآخر من المقاومة، كان الإسرائيليون يخططون بشكل يومي لكيفية التخلص من الرجل الذي حول حياة الاحتلال إلى عبء وكلف باهظة، بعد أن حملته "إسرائيل" المسؤولية عن أسر ثمانية من جنودها في لبنان ومبادلتهم بخمسة آلاف معتقل لبناني وفلسطيني وعربي.
وكذلك وضع خطة اقتحام وتفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور، الأمر الذي أدى إلى مصرع 76 ضابطا وجنديا بينهم 12 ضابطا يحملون رتبا رفيعة عام 1982، وعملية مفاعل "ديمونا" عام 1988، التي كانت السبب الرئيس لاغتياله، بحسب المصادر الإسرائيلية.
كان القرار الإسرائيلي باغتيال الوزير قد اتخذ من حكومة الاحتلال بشكل نهائي، في أعقاب العملية الجريئة التي خطط لها "أبو جهاد" بإنزال مجموعة من الفدائيين إلى شواطئ تل أبيب، ثم التوجه بعد ذلك إلى مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في منطقة "الهاكرياه" وأسر كبار الضباط والعاملين في الوزارة بما فيهم إسحاق رابين وزير الدفاع آنذاك، لتكون تعبيرا عن رؤيته القائلة: "سنجبر إسرائيل على البقاء في حالة استنفار".
رغم أن العملية لم تنجح تماما كما خطط لها "أبو جهاد"، فإن تلك العملية كانت بالنسبة للقيادة الإسرائيلية "ناقوس خطر"، وكانت تمثل خرقا لقواعد الصراع بين الطرفين التي تقضي بعدم المساس بقادة الصف الأول.
بعد حصار بيروت في عام 1982 وخروج كادر وقوات منظمة التحرير الفلسطينية من المدينة عاد "أبو جهاد"، مع رفيقه عرفات إلى مدينة طرابلس؛ ليقود معركة الدفاع عن معاقل الثورة في مواجهة "المنشقين".
وإذ خرج من طرابلس، توجه بعدها "أبو جهاد" إلى تونس، حيث مقر المنظمة ومقر إقامة أسرته.
في هذه الأثناء، كانت عملية اغتيال "أبو جهاد"، قد اكتملت فكلفت الوحدة الخاصة لهيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي، وسلاح البحرية الإسرائيلي ووحدة "قيسارية" في "الموساد" بإعداد خطة اغتيال "أبي جهاد".
وأوكلت مهمة قيادة فريق التنفيذ لنائب رئيس هيئة أركان الجيش آنذاك، إيهود باراك، الذي أصبح رئيسا للوزراء فيما بعد، وأشرف الجنرال موشيه يعلون رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية -وأصبح وزيرا للدفاع فيما بعد ومرشحا عن تحالف "أبيض أزرق" بقيادة بيني غانتس- على سير عملية التنفيذ بالتعاون مع جهاز "الموساد".
وفي 16 نيسان/ أبريل عام 1988، أنزل الاحتلال 20 عنصرا مدربين من قواته من أربع سفن وغواصتين وزوارق مطاطية وطائرتين عموديتين للمساندة على شاطئ الرواد قرب ميناء قرطاج في تونس. وبعد مجيء "أبي جهاد" إلى بيته، كانت اتصالات عملاء "الموساد" على الأرض تنقل الأخبار، فتوجهت هذه القوة الكبيرة إلى منزله.
وحين كان يكتب كلماته الأخيرة على ورق كعادته ليوجهها لقادة الانتفاضة للتنفيذ، سمع ضجة بالمنزل، رفع مسدسه وذهب ليرى ما يجري، كما روت زوجته، انتصار الوزير، وإذا بسبعين رصاصة تخترق جسده.
لم تعترف تل أبيب صراحة بعملية الاغتيال إلا في السنوات الأخيرة، ففي عام 2012، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية تحقيقا صحفيا يؤكد أن الجيش الإسرائيلي كان وراء اغتيال "أبي جهاد".
وفي برنامج تلفزيوني، اعترف موشيه يعلون، بأنه "أعدم" القيادي "أبا جهاد"، خلال عملية نفذتها وحدة إسرائيلية خاصة في تونس. وألمح إلى أنه أطلق النار على رأس "أبي جهاد"، بقوله إنه كان ضمن الفرقة التي نفذت العملية، حيث تأكد بنفسه من مقتل "أبي جهاد"، حين صعد للطابق الثاني، حيث كان القائد الفلسطيني غارقا في دمائه، وللتأكد من أنه قد فارق الحياة، اقترب يعلون منه وأطلق رصاصة برأسه، بحسب أقواله.
ولم تكن عملية اغتيال بهذا التعقيد وبهذه الأعداد من المشاركين في تنفيذها أن تنجح دون مساندة على الأرض، أو على الأقل توفير غطاء من السرية حولها، وسط حديث يدور عن أجهزة تنصت وتشويش على الاتصالات وطائرات عمودية وطوافات ومستشفى عائم.
وتشير تقارير صحفية غير موثقة، إلى أن وجود منظمة التحرير في تونس مر بأزمات عديدة عاشتها البلاد، منها أحداث الخبز في عام 1984 وحالة الانهيار الاقتصادي، وثم الانقلاب الأبيض في عام 1987 الذي أطاح بالرئيس الحبيب بورقيبة، ومن ثم بداية القمع ضد المعارضة.
ولم تحافظ العلاقات بين السلطات التونسية ومنظمة التحرير على نفس حرارتها، ولم تعد السلطات التونسية تحتفي بوجود عناصر المنظمة في البلاد.
وفي هذا الإطار، تذهب أطراف تونسية في اتجاه تأكيد تورط الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في التعامل مع "الموساد" في عملية اغتيال "أبي جهاد" إذ إن إقامته لا تبعد إلا كيلومترا واحدا عن القصر الرئاسي، والأمر الذي فتح ملف تورط نظام بن علي في التعامل مع "الموساد" اشتعال الثورة التونسية التي أسقطته.
رحل "أبو جهاد" ومن بعده قادة في مقدمتهم ياسر عرفات "أبو عمار" شكلوا تاريخ الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها، دمهم لا يزال يبحث عن القاتل الحقيقي و"الخونة" وعن عدالة غائبة عن أرض فلسطين منذ أكثر من مائة عام.
رحل قادة تاريخيون تركوا خلفهم إرثا وطنيا غنيا واستثنائيا، لم يحسن كثيرون ممن جاؤوا بعدهم الحفاظ على نقائه والأسس الوطنية التي قام عليها.