على مدار سنوات الأزمة السورية لم تكن الولايات المتحدة داعما حقيقيا للمعارضة، ولا عدوا حقيقيا للنظام السوري، إذ اتبعت واشنطن سياسة إطالة الأزمة مع منع أي طرف من الانتصار عسكريا بشكل كامل، والسماح للنظام بالتفوق عسكريا لأسباب استراتيجية تتعلق بالمصالح الأمريكية ـ الإسرائيلية في المنطقة، لا بأسباب أيديولوجية.
انسحاب أمريكي مفاجئ
الانزياح العسكري الأمريكي لصالح النظام السوري سبق بانزياحات سياسية، عبر الانتقال من صيغة تشكيل هيئة حكم ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، إلى حكم ذي مصداقية شامل وغير طائفي، مع يعنيه ذلك من تطبيق نموذج الحوكمة، أي الحكم الرشيد وفق المفهوم الغربي الذي يتطلب إصلاحات سياسية ودستورية، لا تغيير نظام الحكم بالكامل.
ومع مفاجأته للمعارضة المسلحة الانسحاب من الجنوب السوري، فاجأ ترامب الجميع بقراره سحب قواته العسكرية من سوريا.
هدف ترامب هو الوصول إلى صيغة مثلى للسياسة الخارجية بتقليص الانخراط الأمريكي المباشر في الصراعات الإقليمية من خلال البحث عن شركاء محليين وإقليميين ودوليين، يخففون من الحضور الأمريكي مع الحفاظ على المصالح الأمريكية العليا.
منظمة حظر السلاح الكيمائي اتجهت نحو تشكيل فريق لتحديد مسؤولية من استخدم الكيماوي في سوريا
قد تبدو هذه المقاربة معقدة، خصوصا في بيئة مثل
سوريا، حيث التداخل الإقليمي والدولي كبير جدا، ويصعب ردعه من دون حضور أمريكي وازن.
ويبدو أن ثمة محاولة لإجراء فصل بين الأهداف العامة لسياسة الولايات المتحدة عن أنشطتها العسكرية، بمعنى أن عملية محاربة "داعش" هي وحدها التي تجمع بين الأهداف السياسية والعسكرية للولايات المتحدة، أما فيما يتعلق بإيران ودعم الوحدات الكردية والتسوية السياسية في سوريا، فهي أهداف عامة لواشنطن غير مرتبطة بالأهداف العسكرية.
لكن المؤسسات الأمريكية المختلفة، استطاعت إقناع ترامب بأن تطبيق سياسة القوة الناعمة تجاه النظام السوري لا تكفي إن لم تكن هناك قوة عسكرية على الأرض تحمي الإنجازات العسكرية التي تحققت.
هكذا عدل ترامب من قراره سحب القوات الأمريكية، من دون أن يؤثر ذلك على فكرة إنشاء المنطقة العازلة التي تبدو ضرورية في ضوء تخفيف الحضور الأمريكي لا إلغاؤه في المشهد العسكري السوري.
الانتقال إلى القوة الناعمة
يترافق ذلك مع لجوء والولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين إلى اعتماد القوة الناعمة كاستراتيجية مقبلة لممارسة ضغوط كبيرة على النظام السوري وحليفيه الإيراني والروسي، ويمكن تحديد القوة الناعمة هذه في ثلاثة مستويات:
ـ سياسي، تمثل بشكل واضح في الضغوط الأمريكية من جهة والأوروبية من جهة ثانية تجاه بعض الدول العربية المهرولة نحو النظام، وقد بدت ملامح هذا التوجه تؤتي ثمارها، فقد جمدت الجامعة العربية فكرة مناقشة دعوة النظام السوري لحضور القمة العربية، في وقت جمدت الإمارات العربية عملية الانفتاح، وكذلك الأردن إلى حد ما.
المؤسسات الأمريكية المختلفة، استطاعت إقناع ترامب بأن تطبيق سياسة القوة الناعمة تجاه النظام السوري لا تكفي إن لم تكن هناك قوة عسكرية على الأرض تحمي الإنجازات العسكرية التي تحققت.
ـ اقتصادي، تمثل في الخناق الكبير الذي يعانيه النظام السوري، وكانت أزمة الكهرباء والغاز أكبر مثال على تأثير العامل الاقتصادي، وقد نجحت الولايات المتحدة في ثني الأردن في تجميد عملية الانفتاح الاقتصادي تجاه سورية، وقد اجتمع لأجل ذلك الملحق التجاري الأمريكي لدى عمان، مع ممثلين عن قطاع الصناعة والتجارة، وما صدر عنه من توجيهات بقصر التبادل التجاري والمساهمات في الإعمار على العراق فقط.
وجاء التحذير الأمريكي واضحا، من حيث أن التبادل الاقتصادي يشكل خرقا للقوانين الأمريكية ذات الصلة، ويضع من يخترق هذه القوانين تحت طائلة العقوبات الأمريكية المباشرة.
ويعتبر الموقف الأمريكي هذا تحذيرا لحلفائه في المنطقة قبيل إقرار قانون "قيصر" في الكونغرس الأمريكي والذي ستوازي قوته قوة العقوبات المفروضة على إيران وكوريا الشمالية.
ـ المستوى الثالث، هو المستوى القانوني، حيث شهدت مؤسسات الأمم المتحدة حراكا قانونيا متسارعا لم تعرفه السنوات الماضية، فقد عقد مجلس الأمن منذ نحو أسبوعين اجتماعا لبحث استخدام السلاح الكيماوي في سوريا.
ومع أن مجلس الأمن لم يحدد مسؤولية الطرف الذي استخدم الأسلحة الكيماوية، إلا أن الملفت هو تحرك منظمة حظر السلاح الكيمائي نحو تشكيل فريق لتحديد مسؤولية من استخدم الكيماوي في سوريا، وقد كانت هذه إشكالية كبيرة بين الولايات المتحدة وروسيا، فالأخيرة تطالب دائما بأن تحديد المسؤولية يجب أن يكون من اختصاص مجلس الأمن، أي الدول الرئيسة فيه، مع ما يعنيه ذلك من تسييس هذا الملف، في حين تطالب واشنطن، ومعها باريس ولندن وبرلين أن تكون مهمة تحديد المسؤولية من قبل منظمة حظر السلاح الكيميائي.
هذه الخطوات استتبعت برفع دعوتين في محكمة العدل الدولية بـ لاهاي ضد أركان النظام السوري، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الثورة السورية، وعلى الرغم من أن الدعوتين جاءتا بمبادرات فردية من قبل محامين، إلا أنها تعكس المناخ الدولي المتبلور نحو تفعيل القوة الناعمة ضد دمشق.
كاتب وإعلامي سوري