يشهد
العراق في هذه الأيام متغيرات مهمة في المشهد السياسي والفكري والاجتماعي والديني، في ظل التطورات الحاصلة بعد الهزيمة التي تعرض لها تنظيم داعش، وبعد تداعيات الانتخابات النيابية وتشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور عادل عبد المهدي، وفي ظل الصراع الأمريكي- الإيراني المتصاعد وتغير طبيعة التحالفات السياسية العراقية.
ومن خلال زيارة سريعة للعراق، واللقاء مع عدد من القيادات العراقية السياسية، والاطلاع على طبيعة النقاشات الدائرة بين الاوساط العراقية الفكرية والسياسية، يمكن تسجيل عدد من النقاط المهمة التي قد تعطي انطباعات جديدة عن الأوضاع العراقية منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003.
ومن هذه الملاحظات العامة:
أولا: تراجع حدة الصراع المذهبي إلى أقل مستوى له منذ الاحتلال الأمريكي إلى اليوم. ولا يعني ذلك انتهاء تأثيرات المذهبية والصراعات العشائرية والعرقية والمناطقية على الواقع السياسي، لكن لم يعد الانقسام المذهبي حادا، وأصبحت
الصراعات تأخذ أبعادا اجتماعية واقتصادية، وداخل الأحزاب والتيارات السياسية الواحدة.
ثانيا: التطور المهم على الصعيد الأمني، عبر عودة الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية للإمساك بمفاصل الأوضاع في مختلف المناطق والمدن، ولا سيما العاصمة بغداد، وإزالة الكثير من الحواجز الأمنية، وفتح العديد من الطرق الرئيسية وتراجع مخاطر المجموعات الإرهابية، وإن كان الخطر الأمني لا يزال قائما، سواء من قبل تنظيم داعش أو من قبل بعض المجموعات المسلحة التي تنفذ عمليات الاغتيال والقتل. ولكن بالإجمال، نحن أمام واقع أمني أفضل بكثير مما كان عليه طيلة السنوات الماضية.
ثالثا: الانقسامات داخل الكتل والأحزاب والتيارات السياسية والدينية الواحدة. لقد تعرضت معظم الأحزاب العراقية وخصوصا الإسلامية منها، إلى انقسامات وانشقاقات متعددة ولم نعد أمام أحزاب متماسكة وقوية. فحزب الدعوة أصبح أكثر من حزب وتيار، والمجلس الأعلى انقسم إلى عدة اتجاهات، والكتائب والأحزاب المؤيدة للحشد الشعبي لم تعد موحدة، والحزب الإسلامي العراقي (تيار الإخوان المسلمين) انقسم لعدة كتل وأحزاب، والأكراد لم يعودوا موحدين، والخلافات تشتد بين أحزابهم وقواهم، والتيار الصدري يتعرض لتغيرات وانقسامات كل فترة. وأصبح الشعار الوطني أو التحالفات الوطنية تتقدم على الشعارات المذهبية أو الدينية أو
الطائفية.
رابعا: معركة الفساد والتنمية وتأمين حاجيات الناس هي الأولوية، ولم تعد معركة الهوية أو البعد الديني أو حماية المذاهب والطوائف هي الأولوية، بل إن الفكر الديني اليوم أصبح أمام تحديات وأسئلة عديدة من قبل الشباب والمفكرين والرأي العام بعد الفشل الكبير للأحزاب والتيارات الإسلامية، والتحديات التي تواجهها المرجعيات الدينية.
خامسا: الخلافات اليوم أصبحت حول القضايا المركزية، ولم نعد أمام انقسام عامودي مذهبي أو طائفي، فالخلاف والنقاشات تدور حول مستقبل الحشد الشعبي ودوره، وموقع مؤسسات الدولة، والعلاقة مع أمريكا، والموقف من إيران وموقع العراق في العالم العربي وموقفه من الصراع مع العدو الصهيوني.. إلى غير ذلك من الأسئلة المركزية التي لا يوجد حولها موقف موحد حتى داخل كل تيار أو حزب، وسيكون السؤال حول دور العراق ومستقبله وموقعه في خريطة المنطقة؛ هو الأولوية في المرحلة المقبلة.
سادسا: تراجع الخوف من تقسيم العراق إلى دويلات مذهبية أو عرقية، والبحث اليوم عن دور الدولة ومؤسساتها، وكيفية تعزيز هذه الدولة لمواجهة التحديات المختلفة داخليا وخارجيا.
سابعا: زيادة الجرأة في رفع صوت المجموعات العراقية المختلفة، احتجاجا على إضعاف العراق أو تبعيته لمحور دون آخر، والدعوة إلى أن يكون العراق مركز وصل واتصال بكل الدول والمحاور، بدل أن يكون ساحة صراع وتنافس إقليمي ودولي.
ثأمنا: لا يزال العراق يعاني من تراجع كبير في البنية التحتية والخدمات العامة، رغم بعض التقدم الطفيف، وهو بحاجة لورشة إعمار شاملة في كافة المرافق.
هذه بعض الانطباعات التي يمكن تكوينها وملاحظاتها من خلال زيارة سريعة للعراق، وإن كانت هناك حاجة لزيارات مطولة تتيح اللقاء مع كافة النخب والقيادات السياسية والحزبية والفكرية لتكوين صورة أشمل واعمق، لكن على الأقل يمكن القول إن العراق خرج من أزمات عديدة، وأهمها الصراع المذهبي الحاد ومواجهة تحدي الإرهاب وتراجع الاتجاهات التقسيمية، لكن تحدي بناء الدولة وعودة المجتمع إلى طبيعته، والاتجاه نحو الدولة المدنية والوطنية، وتأمين حاجات المواطنين، والسير في مشروع التنمية الشاملة.. كلها تحديات أخرى مستقبلية تواجه القوى والأحزاب العراقية.
لكن على الأقل يمكن القول إن حدة الصراع المذهبي قد تراجعت قياسا إلى كل السنوات الماضية، وعسى أن ينعكس ذلك على كل الأوضاع في المنطقة، وليأخذ الصراع في المنطقة أبعادا وطنية أو قومية أو اجتماعية واقتصادية، وحول مشروع الدولة، وليس على الدولة والوطن.