هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ انتهاء التوافق بين رئيس الجمهورية وبين حركة النهضة، شهدت تونس عودة لشعار مركزي من شعارات اليسار الجبهوي والنقابي. كان ميلاد هذا الشعار ناتجا أساسا عن عمليتي الاغتيال السياسي التي طالت المرحومين الحاج محمد براهمي وشكري بلعيد. ورغم كثرة "المنتفعين" من تلكما العمليتين في الداخل والخارج (المنظومة القديمة واليسار الاستئصالي مع من يكفلهم من القوى الإقليمية والدولية المعادية للثورات العربية)، ورغم أن حركة النهضة (في حكومة الترويكا) كانت أكبر خاسر من الاغتيال السياسي، حرص اليسار السياسي والنقابي (بدعم من المنظومة القديمة وأجهزتها الدعائية) على حصر الإدانة في حركة النهضة، من خلال ما سُمّي بـ"التنظيم السري".
وسنحاول في هذا المقال أن نحلل (انطلاقا من الشعار الوارد في العنوان) أهم الوظائف التي أداها الاغتيال السياسي، خاصة ذلك المتعلق بتكريس التحالف الاستراتيجي (لا التكتيكي) بين التجمعيين واليساريين الاستئصاليين؛ باعتبارهم الواجهة الأساسية التي حكمت من حلالها النواة الصلبة للمنظومة القديمة قبل الثورة، وباعتبارهم الأداة الأساسية التي ضمنت عودة تلك المنظومة لمركز السلطة. كما سنحاول أن نثبت (من باب الجدل أو تبكيت الخصم) أن منطق "المصادرة على المطلوب" الذي تعتمده هيئة الدفاع عن المرحومين بلعيد والبراهمي؛ يمكن أن يؤدّيَ إلى نتائج مختلفة، بل متناقضة.
صفة "المجرم" تكون لغوا ما لم يتم الانتهاء من إجراءات التقاضي العادلة وصدور حكم بات لا يقبل الاستئناف أو الطعن، ولكنّ هذه البديهيات تصبح أثرا بعد عين حالما يحتكم أي طرف إلى مغالطة "المصادرة على المطلوب"
"تبييض" المنظومة القديمة وما اقترفته من جرائم في حق النهضويين (من قتل وتعذيب وتهجير قسري)، فكأن ما قام به المخلوع ونظامه هو "دفاع شرعي"، وكأنّ ما طال النهضويين هو عقوبة مستحقة
عندما اغتِيل المرحومان البراهمي وبلعيد، سارعت الجبهة الشعبية (مسنودة بنداء تونس وباقي القوى العلمانية) إلى تحميل حركة النهضة وحكومة الترويكا المسؤولية عن ذلك. وقد كان من الممكن تفهم هذا الأمر لو انحصرت القضية في المشؤولية السياسية؛ لأنها كانت مسؤولية ثابتة. فالترويكا (بقيادة حركة النهضة) كانت مسؤولة سياسيا عن عمليتي الاغتيال، ولكنها لم تكن المسؤول الأوحد في ظل استقطاب أيديولوجي حاد، وفي ظل سياسات استضعاف ممنهج للدولة؛ كانت وراءها أطراف كثيرة، ليس أقلها تأثيرا اليسار بجناحيه السياسي والنقابي. ولكن الاتهامات تجاوزت المستوى السياسي، لتتخذ المسألة بعدا قضائيا يهدف إلى تحميل النهضة مسؤولية جزائية في عمليتي الاغتيال. وبالطبع، فإن من حق رفاق المرحومين أن يتهموا من شاؤوا بما شاؤوا، ولكنّ من حقنا نحن أن نفهم المنطق الذي يحكم هذا السلوك السياسي، وأن نقف على اللامفكر فيه عندهم، أو المسكوت عنه عجزا أو اختيارا.
لسنا هنا في وارد التشكيك في نوايا الجبهة الشعبية ولا في مهنية هيئة الدفاع عن الشهيدين، ولكن من حقنا أن نطرح جملة من الأسئلة المقموعة والمهمشة في خطاب هاتين الجهتين. فمن المعلوم أنّ من يبحث عن الحقيقة لا يستثني أية فرضية مهما كانت مستبعدة، ولكنّ المراقب للفكر الذي أنتج الشعار الوارد في العنوان يلاحظ أنّ "أولياء دم" الشهيدين أصرّوا منذ البدء على حصر التهمة (لا الشبهة) في حركة النهضة دون سواها. وهو حصر قد يطعن في جدية بحث تلك الأطراف عن الحقيقة كما هي، لا كما يريدونها أن تكون. فالمنطق السليم يقول إنّ اغتيال المرحومين البراهمي وبلعيد كان يدعو إلى طرح سؤالين مركزيين: من المستفيد من الاغتيال السياسي، وهل لحركة النهضة التي كانت تقود حكومة الترويكا مصلحة في ذلك؟
"أولياء دم" الشهيدين أصرّوا منذ البدء على حصر التهمة (لا الشبهة) في حركة النهضة دون سواها. وهو حصر قد يطعن في جدية بحث تلك الأطراف عن الحقيقة كما هي، لا كما يريدونها أن تكون
الشعار يخفي "أزمة" بنيوية يشترك فيه الخطابان اليساري والنهضوي على حد سواء، تلك الأزمة التي استغلها التجمعيون (ومن ورائهم النواة الصلبة للمنظومة القديمة) وجعلوها مدخلا ملكيا للتلاعب بكل الأيديولوجياتختاما، يمكننا أن نقول إن شعار "يا غنوشي يا سفاح، يا قتّال الأرواح" هو اختزال لمجمل ارتكاسات مسار الانتقال الديمقراطي، وهو ارتكاس لا يشمل صنّاع الشّعار والمروّجين له فحسب، بل يشمل أيضا موضوعه أو ضحيته. فهذا الشعار يخفي "أزمة" بنيوية يشترك فيه الخطابان اليساري والنهضوي على حد سواء، تلك الأزمة التي استغلها التجمعيون (ومن ورائهم النواة الصلبة للمنظومة القديمة) وجعلوها مدخلا ملكيا للتلاعب بكل الأيديولوجيات والسرديات الكبرى تمهيدا للعودة إلى مركز السلطة والبقاء فيه.