بدأ مايك بومبيو زيارة للشرق الأوسط الثلاثاء الماضي (8 كانون الثاني/ يناير) استهلها بزيارة الأردن، لكنه بدأ جولته الخليجية بالبحرين وليس السعودية، وألقى محاضرة مهمة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة الخميس الماضي (10 كانون الثاني/ يناير)؛ تعرض فيها بنقد يقترب من الإهانة للرئيس الأمريكي السابق (أوباما)، في ما يعد (كما ذكر كثير من الباحثين) المرة الأولى التي ينقد فيها وزير خارجية رئيس سابق لبلاده من عاصمة بلد آخر. في نفس الفترة تقريبا، كان مستشار الأمن القومى الأمريكي جون بولتون؛ في إسرائيل وتركيا.. بولتون الذي يوصف بأنه دائما ما يتقمص دور الشيطان؛ تعرض لموقف لا يحسد عليه، إذ رفض الرئيس التركب مقابلته، والتقى فقط بمستشار الرئيس، الرجل الرصين الوقور إبراهيم كالين، المدرس السابق للفكر الإسلامي والعلاقات بين الاسلام والغرب في كلية الصليب المقدس وجامعة جورج تاون.
يأتي بومبيو وبولتين الى الشرق الأوسط في زيارتين منفصلتين وفي توقيت واحد؛ فليس ذلك علامة خير.. قوة الخير التي وصف بها بومبيو بلاده في القاهرة لا يبدو أنها ستأتي بخير،
أن يأتي بومبيو وبولتين الى
الشرق الأوسط في زيارتين منفصلتين وفي توقيت واحد؛ فليس ذلك علامة خير.. قوة الخير التي وصف بها بومبيو بلاده في القاهرة لا يبدو أنها ستأتي بخير، خاصة إذا كان رسولاها شخصين؛ أحدهما كان من أهم مهندسي
الحرب على العراق 2003، وهو صهيوني متشدد وبالغ القسوة والعنف في التعامل مع الآخرين.. والآخر معروف بتطرفه الشديد وعنصريته ضد الأقليات العرقية، وضد الإسلام والمسلمين بوجه عام وقادم للتو من منصب مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. فهل الشرق الأوسط الآن يجرى تجهيزه لحرب، أو تحدث فيه ما تحدثه الحروب في البلدان والأوطان والأنظمة والدول، وخرائط فوق خرائط وحدود فوق حدود وأفكار على أفكار ومصالح على مصالح؟ في الأغلب هو ذلك، بل وكثير من المتغيرات والمعطيات تشير إلى قرب حدوث ذلك.
سيكون علينا أولا أن نتذكر ما قالته واشنطن بوست في اليوم التالي لتنصيب
ترامب: ".. حرب الرئيس الأمريكي المقبلة ستكون ضد الإسلام، حيث سيتبنى نهجا قوامه الصراع الحضاري، وغايته عزل وإخضاع منطقة الشرق الأوسط والدين الذي يدين به أهل الشرق الأوسط، ترامب يوشك أن يٌدخل الغرب في المرحلة الثالثة بعد مرحلتي بوش وأوباما.. المرحلة الأشد سوادا وظلاما من مراحل سعيه المستمر منذ 15 عاما لإبطال مفعول خطر ما يسميه التطرف الإسلامي".
ترامب يسعى خلف حرب من نوع خاص.. حرب عالمية ضد عدو غير مسيحي، ولا يقبل بالتفاوض.. حرب دموية رهيبة تثير ذعر العالم
يقولون إن ترامب يسعى خلف حرب من نوع خاص.. حرب عالمية ضد عدو غير مسيحي، ولا يقبل بالتفاوض.. حرب دموية رهيبة تثير ذعر العالم.. الروس يقولون إنهم واثقون من أن أمريكا تستعد للحرب في الشرق الأوسط، واستدلوا بكلمة ترامب "ان إيران هي الدولة الإرهابية رقم واحد". الحروب تبدأ عادة هكذا في البداية: تعلن واشنطن "أحدا ما" إرهابيا، وبعد ذلك تشن حربها الصليبية ضد هذا "الأحد ما".
أغلب الدراسات الغربية عن الشرق الأوسط تشبه المناخ العام في الشرق الأوسط بالوضع في أوروبا عام 1914 (الحرب العالمية الأولى)، عندما كانت هناك كثير من الصراعات تتصاعد وتؤثر على بعضها البعض، بل كانت هناك كثير من الأمور التي تزيد من الشكوك المتبادلة وعدم اليقين؛ وتوقع حدوث أي شيء بغض النظر عن منطقيته أو ضرورته. الحرب العالمية الأولى بالفعل كانت من أغبى حروب التاريخ، وتركت بعدها أثرا من أسوأ الآثار التي يمكن لحرب أن تتركها على كل المستويات. وقد عبر الشاعر الإنجليزي إليوت عن ذلك أدق وأعمق تعبير، في قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب" التي كتبها عام 1922، واصفا خيبة أمل البشرية بعد الحرب العالمية الأولى، والتي وصلت إلى حدود التقزز والاشمئزاز، حيث المخاوف والذعر والشهوات العقيمة: "أبريل يا أقسى الشهور.. سأريك الخوف في قبضة غبار".
الأزمات في الشرق الأوسط تتصاعد، وهناك نوعا من الشعور بأنها ستخرج عن السيطرة، وأن هناك صراعا محتملا بين أمريكا وإيران في المنطقة
سبب مشابهة الحالة الشرق الأوسطية الآن لحالة العالم ما قبل الحرب العالمية الأولى هم "القادة المشكوك في حكمتهم" (كما يقولون) في الغرب، أمثال ترامب أو بعض القادة الإقليميين، إذ أن جميعهم لديهم حب كبير للسلطة، ناهيك عن غطرسة وعجرفة مليئة بالخبل المخبول، كما لديهم ضعف فادح في قدرتهم على تقييم الأمور، والأهم أنهم كلهم أجمعون لاعبون رئيسيون في نزاعات وأزمات متفجرة قابلة لأن تتحول بسهولة بالغة لحروب خطيرة. ويقول باتريك كوكبيرن الصحفى المتخصص في الشرق الأوسط، ومؤلف كتاب هام عن مقتدى الصدر (مقتدى الصدر.. صحوة الشيعة والصراع على العراق)، أن
الأزمات في الشرق الأوسط تتصاعد، وهناك نوع من الشعور بأنها ستخرج عن السيطرة، وأن هناك صراعا محتملا بين أمريكا وإيران في المنطقة.
يقولون إن هنرى كيسنجر هو من بلور لترامب رؤيته الاستراتيجية، ومعالم السياسات التي تخدم الاستراتيجية العليا للإمبراطورية الأمريكية في المقام الأول، وإعادة التوازن لمكانة ونفوذ الولايات المتحدة على المسرح العالمي (لاحظ جملة بومبيو الأخيرة في القاهرة 10 كانون الثاني/ يناير: انتهى عصر العار الأمريكي).. كيسنجر دائما كان يرى الشرق الأوسط مسرحا ساخنا لإثبات الهيمنة الأمريكية، سواء المباشر منها أم غير المباشر (قوة إسرائيل وتفوقها).
ريتشارد هاس، أحد أبرز وأخطر المفكرين السياسيين الأمريكيين (بكالوريوس في الأدب والفلسفة وماجستير ودكتوراة في الفلسفة من جامعة أكسفورد. عمل في وزارة الدفاع وفي الخارجية الأمريكية، وشغل كثيرا من المراكز الحساسة، وكتب وشارك في كتابة 30 كتابا عن السياسة الخارجية الأمريكية)، قال قبل عامين لقناة "سي إن إن" أن الشرق الأوسط كله سيواجه "حربا دينية" تشبه الحرب الدينية التي شهدتها أوروبا على مدار 30 سنة، ويمكن أن تطول أكثر. وقال أيضا إنه سنشهد عقودا عديدة من الصراعات داخل "حدود كل دولة" وخارجها إلى جانب "حروب بالوكالة" تندلع كلها في آن واحد، وهذه النيران لديها "الكثير من الحطب" القادر على تغذيتها، ويمكن لها بالتالي أن تستمر طويلا، ولن نستطيع (يقصد أمريكا) أن نقوم بفرض تسوية بقوة السلاح. وقد تعلمنا من التجارب في العراق وأفغانستان أن ملايين الجنود ربما يعجزون عن فرض تسوية.
حرب الثلاثين عاما هي سلسلة صراعات دامية مزقت أوروبا بين عامي (1618-1648م) اندلعت في البداية كصراع ديني بين الكاثوليك والبروتستانت، وانتهت كصراع سياسي من أجل السيطرة والنفوذ؛ بصلح "وستفاليا" الشهير عام 1648م، الذي كان من أهم تداعياته "تحديد علاقة أوروبا بالدين".
التيار الوهابي (السنى) والإيراني (الشيعي) سيتصارعان، وسينهي صراعهما ما سماه بـ"الحقبة النابليونية". وقال نفس الكلام عن التشابه مع حرب الثلاثين عاما في أوروبا، بين الكاثوليك والبروتستانت. المدهش أنه دعا في هذه المقالة إلى ضرورة التفاهم مع الإسلاميين المؤمنين
كلام ريتشارد هاس يقرأ جيدا بمقالة هامة كان قد كتبها في كانون الثاني/ يناير 2006م في مجلة "فورين أفيرز" الشهيرة، حيث قال إن التيار الوهابي (السنى) والإيراني (الشيعي) سيتصارعان، وسينهي صراعهما ما سماه بـ"الحقبة النابليونية". وقال نفس الكلام عن التشابه مع حرب الثلاثين عاما في أوروبا، بين الكاثوليك والبروتستانت. المدهش أنه دعا في هذه المقالة إلى ضرورة التفاهم مع الإسلاميين المؤمنين بالديمقراطية.. هذا ما قاله هاس منذ ما يقرب من 13 سنة
هل صحيح أن كل الأمم والمجتمعات التي عرفت الانقسام السياسي والفكرى والاجتماعي لم يتم فيها حسم هذا الصراع إلا عبر حرب ودماء؟ شخصيا، أشكك كثيرا في مسألة "الحتميات التاريخية"، وأرى أن الإنسان (مخلوق الله المختار المكرم في البر والبحر) يستطيع تجاوز هذه الحتميات الضيقة، والانطلاق إلى ما هو أوسع وأنفع وأكرم في رحاب الله رحمن الدنيا والآخرة؛ إذا ما تخلى عن "هوى النفوس الملحاح"، كما قال أمير الشعراء وهو ينعى نهاية الخلافة الإسلامية.