عَبْرَ مقطع كأنَّه قطعة من الليل البهيم، شاهدت أحدهم واستمعت إليه، وهو يتقيأ جملاً كريهة قميئة، لا رابط بينها إلا أنَّها تمضي إلى غاية واحدة، أخبث وأنتن من تلك التي يمضي إليها سيل عبيط يجرف في طريقه مخلفات الخلق إلى أسفل هاوية وأحطِّها، مقطع "فيديو!" كأنَّه قد صُمِّم خصيصاً ليتحمل أعلى قدر من المفاهيم المستفزة والمزاعم المقززة، فلولا أنَّ الآذان في هذا الزمان قد ألفت النشاز؛ لأصاب المرء من هذا الذي رأى وسمع غثيان هائج أو حمى عاتية طاغية.
إنَّها حقاً أزمة العقول النَّافرة، تلك التي هجرت ثقافتها ونفرت من تراث أمتها، وسافرت عبر ما أسمته بالعصرانية، تلتمس الرشد حيث لا يكون إلا الخبال، وتتحسس الهدى حيث لا يوجد الا الغيّ والضلال، واتخذت من الفكر الحداثيّ منطلقاً، ومن العلمانية طريقاً زلقاً، ثم انْثَنَتْ على الإسلام لتقوم بدورها الكبير في تطويع القرآن والسنة والشريعة لما "تعتاش!" هي عليه من أفكار ونظريات صارت الآن هياكل خاوية، وبدأ أهلها يبحثون عن سبيل للفكاك من أسرها والخلاص من غرورها وزيفها. إنَّها حقاً عقول تعيش "أزمة نوعية!" على حدَّ تعبير صاحب المقطع ذاك.
فانظر ماذا قال - وبئس والله ما قال - "العقل الذي لا يزال يتكئ على الشافعيّ في القرن الثاني هو عقل يعيش أزمة نوعية... الشافعيّ الذي ينتمي إلى شرطية تاريخية هي شرطية القرن التاسع للميلاد القرن الثاني للهجرة.. الشافعي الذي أطر للوعي الإسلامي في زمان مضى وفق جهده وإمكاناته وأدواته الاجتهادية... ألا يزال العقل الإسلاميّ يعتاش على تلك الآلية إلى يوم الناس هذا؟!... إنَّ إنسانا مات منذ قرون لا يزال يؤطر عقلا يفترض فيه أن يكون حياً! الحي الذي لا يزال يستنجد بالأموات باستمرار! العقل الذي يطمئن إلى قول الأموات!... يجب على العقل الإسلاميّ أن يستفزّ استفزازا جذريا لينشئ نفسه من جديد... لا نستطيع أن نجيب على العلاقات الدولية وأزمات العولمة بمنطق الشافعيّ... لا يمكن أن نفكر بمنطق: هذا وثني وهذا توحيدي، هذا وضعي وهذا سماوي، هذا زمان ولى التصنيف فيه. نحن بإزاء نمطية جديدة.. لم تعد الخطورة من الأديان الوضعية، وإنما تتمثل الخطورة وجذور الأزمة في هذا الذي يريد نزع القداسة عن العالم... فقهنا منهك من ثقل إجابات الماضين... من خلفاء الله في الأرض الآن؟ من الخلفاء عن الله عمليا في الأرض الآن؟... نحن معنيون بأن نبتعث المزاج القرآني...".
هذه هي أهم الجمل التي اشتمل عليها المقطع، وهي تشكل صلب موضوعه، وتستطيع أن تعود للمقطع، وهو منشور على فيسبوك ويوتيوب، لتتأكد أن ما أسقطْتُه لم يكن سوى استطرادات وإسهابات لا يؤدي إسقاطها إلى التخفيف من سوداوية هذه العبارات وظلمتها. والحقيقة أنَّها عبارات مركزة اختزل فيها الرجل في غفلة منه وعجلة؛ أغلب المقاصد وأهمها، تلك المقاصد التي يسعى لتحقيقها كثير من العلمانيين الجدد الذين يتحدثون باسم الإسلام؛ ليقوموا بعلمنته من داخله وتفجيره من نواته.
ويجب أن ننتبه في بداية الأمر إلى أنّ الشافعيّ ليس هو المقصود بهذه الحملة، وإنَّما المقصود هو النمط الذي يؤطر للوعي الإسلاميّ.. المقصود هو المنهجية التي بها يعي العقل المسلم خطاب القرآن والسنة.. الآلية التي من خلالها تتجلى للناس هدايات القرآن، الطريقة والسنة التي يتم بها التعاطي مع النص.. المنهاج والطريق الذي رسمه الأوائل للانطلاق من النص والتفاعل معه.. وهذا كله لم ينفرد الشافعيّ بوضعه، ولم يكن فيه متميزاً على غيره، اللهم إلا بالجمع والترتيب والتهذيب والتشذيب.
إذ كان أول من دون علم الأصول في كتاب مستقل هو كتاب "الرسالة"، فلم يكن مالك (ولعل الرجل تحاشى الكلام عنه ليتفادى الصدام مع الجزائريين وهم مالكية) غافلاً عن أصول الاستدلال وطرقه، وقد كان أسبق من الشافعي وأستاذاً له، فها هو يبني فقهه على الكتاب والسنة والإجماع وعمل أهل المدينة والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع. وأبو حنيفة الذي سبقهما؛ أسس على مبادئِ مدرسةِ الرأيِ العريقةِ مذهبَهُ الذي أكثر فيه من القياس والاستحسان بعد الكتاب والسنة.
ومن لديه أدنى اطلاع على أقوال وفتاوى السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ يدرك أنَّ الأسس والركائز لم تكن غائبة عنهم ولا نائية عن مداركهم، تلك الأسس والركائز التي تشكل ما يمكن أن يسمى بنظرية المعرفة التي أطرت للعقل الإسلاميّ قبل الشافعي وإخوانه من أصحاب المذاهب، والتي منها أنّ الكتاب والسنة هما مصدر التشريع، وأنَّ السنة حجة في العقائد والأحكام؛ تلي الكتاب العزيز، وأنَّ العقل ليس بشارع استقلالا رغم كونه أداة الاجتهاد، وأنَّ الصحابة في مجموعهم هم خير جيل وخير قرن؛ شهدوا التنزيل وعاصروا الرسالة، وعاينوا أول حركة للنص مع الواقع الإنسانيّ، فوق كونهم في الأصل أرباب البيان وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن، إضافة إلى تزكية الكتاب العزيز لهم وإخباره برضى الله عنهم، فهم لذلك كله مقدمون؛ إن أجمعوا فإجماعهم حجة، وإن اختلفوا لم يخرج الحق من بينهم في ما تعرضوا له، ومنها شمولية الإسلام وعموم الشريعة وبقاؤها، ومنها أنَّ النصّ القرآنيّ (وإن كان منه المحكم والمتشابه) بيان للناس، وأنّ المتشابه فيه يُرَدُّ إلى المحكم، وليس في هذا مدخل لمن يريد الخروج من سلطان النص بزعم أنه حمال أوجه تتعدد قراءاته باحتمالات أوجهه.. كل هذه الركائز كانت ولا تزال تنظم المعرفة وتؤطر للوعي من لدن الصحابة رضوان الله عليهم، وجميعها مصدرها الوحي، وليس فيها ما هو دخيل على الثقافة الإسلامية من أي حضارة من الحضارات.
والشافعي (ومثله في هذا سائر علماء عصره) كان يعيش في القرن الثاني الهجري، لكن ما كان ينتمي لما أسماه هذا الرجل "الشرطية التاريخية للقرن التاسع الميلادي الثاني الهجري"؛ لأنّ الشرطية التاريخية (وهي عبارة تطلق ويراد بها تأثير التحولات التاريخية في الفكر الإنسانيّ) لم تكسر خط
الفقه الإسلاميّ، ولم يتعدّ تأثيرها هزَّات في بعض الاجتهادات لا تضر بالمنهجية العامة ولا بالنظرية الكلية، وذلك يرجع لسببين، الأول: قوة الدفع الأولى للفكرة الإسلامية، والثاني: وجود وبقاء واستمرار النص المعصوم الحافظ لهذه الفكرة والعاصم لها من الفناء أو التحلل والفساد.
وإذا كان هناك ما يجب أن يتهم بالخضوع للشرطية التاريخية، فهو الفكر الغربيّ في تطوراته وتقلباته، فنظرية واحدة كنظرية العقد الاجتماعيّ، من خلالها يرمي تومس هوبز بالسيادة في حجر الملك ليرسخ للحكم المطلق؛ لكون الرياح العاتية هبت في ذاك الأوان ضد الكنيسة التي كانت تتقاسم السيادة مع القصر، فلما جاء جون لوك على ثبج الثورة الانجليزية ارتدت السيادة من خلال نفس النظرية إلى جهة البرلمان الممثل للشعب، وهذا إنما وقع بضغط الشرطية التاريخية، وهي كذلك التي أسهمت في صناعة الفكر الليبرالي وتطويره وتحويره.
فمنذ النشأة في المدن الإيطالية في أوائل القرن الخامس عشر، كان لتحول القوة الاقتصادية من يد الإقطاع إلى يد الرأسمال التجاري والصناعي أثر بارز في الميلاد والنشأة، وفي أوائل القرن التاسع عشر تراجعت الليبرالية عن حديتها في ميدان الاقتصاد والسياسة، لتتحول الديمقراطية إلى نظام يعتني بالرفاه وبالعدالة الاجتماعية، وذلك تحت ضغط الأحداث الكبيرة، كانهيار البنوك والأسواق تحت مطارق الأزمة المالية العالمية، وظهور الفكر الشيوعيّ الذي انطلق بقوة رد الفعل إلى الاتجاه المعاكس لليبرالية، ثم بعد سقوط الشيوعية وتفرد الليبرالية بالزعامة تظهر المدارس النيوليبرالية بفكرها الجديد الساحق والماحق للطبقات الدنيا في العالم بأسره، وينطلق في التنظير والتبشير ميلتون فريدمان (وشلة شيكاغو) وينطلق بالتطبيق ريجان ومارجريت تاتشر، ثم يتوالى الزحف.
والمدرسة المدخولة المشؤومة التي يبدو أن هذا الرجل ينتمي إليها، تؤسس لفكرة منقوضة من أصلها؛ تهدف إلى نقض عرى الإسلام وتقويض خيمة الشريعة، مؤداها أنّ الفقه الإسلاميّ تأسس في عصر الدولة العباسية على نحو مباين تمام المباينة لما كان عليه من قبل؛ بزعم أنَّ الشرطية التاريخية كان لها إملاء قويّ على العقلية الإسلامية التي تأثرت حتماً بالانفتاح على الفرس واليونان، وبقيام الملك العباسي العضوض معتمداً على العجم دون العرب، وهو كلام يكفي للرد عليه أنَّه مجرد فرضيات لا دليل عليها، وهي فرضيات لا يصح افتراضها من الإساس في أمّة لم ينشأ فكرها وفقهها في الفراغ، ومن لديه أدنى اطلاع على الفقه الإسلاميّ علم يقينا أنه (باستثناء النوازل المستجدات التي احتاجت تدخلا بالقياس وغيره من آلات الاجتهاد) لا يوجد في أقوال المذاهب الأربعة ما يعد خروجا عن أقوال السابقين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين.. (يُتْبَع).