عاد ولي العهد السعودي إلى بلاده بعد جولة شملت مصر التي مكث فيها يومين، وتونس التي لم يمكث فيها لأكثر من نصف ساعة لحالة الرفض الشعبي له، ثم الأرجنتين ليشارك على رأس وفد بلاده في قمة العشرين.. وهي أول جولة خارجية له بعد اتهامه بشكل غير مباشر من معظم دول العالم؛ بأنه المسؤول الأول عن مقتل الشهيد الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية
السعودية في إسطنبول بطريقة بشعة..
عاد محملا بكلمات عتاب ولوم هي أقرب ما تكون للاتهام المباشر من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي أبلغ
ابن سلمان بحسب "سي إن إن" أن "الأوروبيين يودون أن يكون الخبراء الدوليون جزءا من التحقيقات بشأن موت الصحفي السعودي جمال خاشقجي"، ما يعني عدم ثقة ماكرون في جهاز التحقيقات السعودي الذي يباشر القضية بعد الاعتراف الرسمي بتعمد قتل الصحفي، ومحاولة لصق الجريمة ببعض رجال الجهاز الأمني السعودي.
وضغت على مؤتمر العشرين أجواء مشحونة تجاه ابن سلمان والرئيس الأمريكي ترامب؛ الذي يتولي بنفسه الدفاع عن ولي العهد السعودي بمحاولة تبرئته بشتى الطرق، ليس دفاعا عن مصالحه الاقتصادية كما يحسب البعض، فالمصالح الأمريكية سوف تتحقق في المملكة بابن سلمان أو بغيره، ولن يعتلي كرسي الحكم في المملكة أي أمير إلا بقبول أمريكي إسرائيلي بشكل مباشر، بل إن المسألة تتخطى المصالح الاقتصادية، إلى معركة الوجود ذاته. فدفاع ترامب المستميت عن ابن سلمان يوحي للمتابع بأن هناك نوعا من التورط الأمريكي في مقتل خاشقجي، وإنقاذ ابن سلمان هو السبيل الوحيد لإنقاذ ترامب. وفي المؤتمر يناور الرئيس الروسي بوتين الأمريكان على وجودهم في الخليج بالتقرب من ابن سلمان الذي يستسلم للمناورة، بل ويحاول أن يظهر للعالم أنه على علاقة وطيدة بروسيا؛ نظرا للقاء الفاتر والمعاملة الخشنة التي قوبل بها أثناء المؤتمر. وبهذا نستشف أن روسيا تستعد لمرحلة ما بعد ترامب لتخلفه في المملكة، مستغلة شعور ولي العهد بالغرق، وكذلك يستعد ابن سلمان للبحث عن حليف قوي بديل ينقذه في حال سقوط الحليف الأكبر، أو تخليه مجبرا عنه إذا تدخل الكونجرس وأظهر ما لديه من معلومات قد تغير خريطة الحكم في المملكة في وقت قريب.
وهل أطاح بمبارك إلا الكبر؟
في الوقت الذي كانت تغلي فيه مصر بالثورة والغضب، لم تستطع كافة الأجهزة المخابراتية المصرية كشف ما يمكن أن يقدم علىه الشعب اليائس من أي إصلاح، وحين تم تبليغ الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بما يدور من غضب داخل أوساط الشباب من مسألة التوريث، رد الرئيس الذي تميز بالعناد الزائد بكلمة "خليهم يتسلوا". ولم يعطِ اعتبارا لأي من تلك النداءات البسيطة والتظاهرات المتفرقة والوقفات الشبابية الصامتة، فتكونت قناعة لدى الشعب بأنه لا فائدة من هذا النظام، وأن المطالبة بالإصلاح لن تجدي، وأن مسألة التوريث يعد لها بقوة وسرعة، وإن هي إلا أشهر معدودة وسوف يجد ابن الرئيس مرشحا رسميا، ليتم تمرير الجريمة وليدخل الشعب في دوامة الانتظار عشرات الأعوام مرة أخرى، فما كان من الشعب إلا أن فاجأ العالم بثورة لم يستطع النظام معها إلا الخلاص من رأسه ليضمن بقاءه.
وبذلك نرى أنه لو استجاب مبارك لبعض مطالب المنادين بالإصلاح في الخامس والعشرين من يناير 2011، من حل مجلس الشعب، أو إقالة وزير الداخلية، ما كان ليضطر للتنحي والتنازل عن الحكم.
وما يحدث في المملكة اليوم يشبه إلى حد كبير ما حدث في مصر خلال الثورة العظيمة، مع الفارق الكبير بين شخصية مبارك الرئيس العسكري الذي شارك في حرب يفتخر بها المصريون والعرب حتى اليوم، غير ثلاثين سنة من ممارسة السياسة والتي لم يسمح لأحد غيره ومن يختاره لممارستها، وبين شخصية محمد بن سلمان الفتى الغر الذي يتلاعب بأموال بلاده لشراء شرعية مفروضة على عائلته وعلى العالم على حد سواء.
ولم تشفع لمبارك تلك السنوات الطويلة من العمل في الجيش ثم في السياسة، ولم تشفع له الخدمات التي قدمها لإسرائيل طوال فترة حكمه؛ في أن تستبقيه أمام إرادة شعبه حين قرر أن ينتفض. والحالة العامة في المملكة كذلك تشبه إلى حد كبير تلك الفترة التي سبقت ثورة يناير في مصر، بما فيها العامل الاقتصادي شديد الوطأة والذي أجبر العشرات، بل المئات، من الشركات السعودية لإنهاء نشاطها وتصفية عمالتها، لعدم قدرتها على مواكبة السياسة الاقتصادية التي يتبعها النظام المضطر لدفع ضريبة بقائه مضاعفا لمن يحمونه أو يستطيعون الإتيان به ملكا.
وقبل مقتل خاشقجي دخلت المملكة في أزمة دبلوماسية مع كندا، بسبب الحريات المنتهكة في المملكة لرجال الدين والمعارضين، ومنهم نساء يتعرضن لأبشع أنواع التعذيب لمجرد إبداء رأي مخالف أو المطالبة بتحسين وضع المرأة المتدهور. وبمتابعة الإعلام السعودي تستطيع أن ترى كم الضغوط التي يتعرض لها الإعلاميون للنطق بما يرضي الحكام، وإن خالف ذلك كافة المعايير الدولية المعروفة في الإعلام.
المملكة على صفيح ساخن
ولا يتوقف الأمر عند السير في طريق إفقار الشعب السعودي أو الهبوط بمستواه الاجتماعي الذي اعتاده، وإنما تزامنت مع تلك الإجراءات عدة
جرائم مع الأمراء، منهم الأعمام ومنهم أبناء العمومة، بإجبارهم عن طريق الحبس بالتنازل عن أجزاء كبيرة من ثرواتهم للإفراج عنهم، مما ساهم في غرس بذور الكراهية بين أفراد العائلة الواحدة، لتقع المملكة إلىوم في فخ الدخول في حرب استنزاف اقتصادي بدأت بوادره بانخفاض سعر برميل النفط إلى 65 دولارا للبرميل، هذا عدا المغامرات غير المحسوبة لولي العهد بالتفريط في الأموال العامة على نزواته؛ بشراء لوحات كالمخلص واليخوت والقصور في أنحاء العالم، غير ما يغدق به على الأنظمة المختلفة كرشاوى سياسية تمهيدا لقبوله عالميا.
ويصبح لزاما عليه أن يرضي ترامب الذي يعتبره خزينته الأمريكية في الشرق الأوسط، كذلك عليه أن يرضي إسرائيل التي أعلن ترامب نفسه أنه لولا السعودية لكانت في ورطة، مما يدل على الكم الكبير من الأموال، وربما البترول وغيره ما لا يعلمه العالم حتى اليوم، لتكون كلمة ترامب مجرد إشارة لشيء كبير يحدث، خاصة أن أيا من ابن سلمان أو إدارته لم ينف أو يعترض على تصريح ترامب.
وقعت المملكة في أزمة كبيرة داخليا وخارجيا بسبب تصرفات فتى على استعداد لأن يدفع ثمنا لكرسي المملكة كل مقدراتها، بما في ذلك التنازل عن عقيدتها التاريخية باعتبارها مسؤولة عن مقدسات المسلمين.. ونجد المحصلة أن كثيرا من المشكلات الوجودية تتنازعها إن بقي ابن سلمان وليا للعهد، فالغرب المقبل على مشكلات اقتصادية طاحنة يبحث عن مورد جديد يستطيع من خلاله سد عجز احتياجات شعوبه؛ لن يترك ولي العهد يحكم سالما بدون دفع الثمن مضاعفا، مستغلا قضية مقتل خاشقجي. وفي المقابل، نجد حالة من الخوف السائد في البلاد نتيجة الإجراءات القمعية المشددة تجاه أي معارض. لكن حالة الضغط الشديد على الشعب السعودي لا تعطي فرصة لأي مؤسسة مخابراتية للتنبؤ بما قد يحدث من ردة فعل له، كذلك حالة الرفض الشديد من الأمراء لوجوده، مع بحثهم عن أي فرصة لاستبداله.
ويصبح لزاما على المملكة أن تختار بين مصيرين، إما الصمت وتمرير جريمة مقتل خاشقجي لتصير المملكة نهبة لعالم متعطش للمال والنفط، أو استبداله وتقديمه للعدالة والخلاص من المصير الأسود لها. إن حالة العناد الشديد التي ينتهجها ولي العهد السعودي ووالده الملك سلمان؛ سوف تعود على المملكة بمصير مجهول، لن يعلم مدى خطورته إلا الله؛ على الأسرة المالكة وعلى الشعب السعودي، وربما المقدسات الإسلامية نفسها.