مثّل انتهاء مرحلة التوافق بين حركتي
النهضة وبين ما تبقى من حركة نداء
تونس (بعد حرب "الشقوق" والانشقاقات) حدثا مفصليا في المشهد السياسي التونسي سنة 2018. فقد اعتبر رئيس الجمهورية أن دعم حركة النهضة لرئيس الحكومة يوسف الشاهد في مواجهة ابنه حافظ قائد
السبسي؛ إعلان حرب عليه شخصيا.. إننا أمام سلوك سياسي سياسي مفهوم في دولة هي أقرب إلى المزرعة العائلية-الجهوية منها إلى دولة القانون والمؤسسات وعلوية الدستور. فكان أن
اختار الرئيس أن ينزاح عن دوره باعتباره "رئيسا" لكل التونسيين؛ إلى دور جديد يمكن اختزاله في الدفاع
عمّا تبقى من حركة نداء تونس، وفي حماية مصالح ابنه السياسية والاقتصادية التي تحوم حولها العديد من الشبهات.
بعد نجاح رئيس الحكومة يوسف الشاهد في
تمرير حكومته الثانية، بدعم قوي من حركة النهضة ومن العديد من الكتل التي كانت تدين بالولاء لرئيس الجمهورية قبل "حرب الشقوق"، كان رئيس الجمهورية أمام خيارين: إما أن يحترم الدستور وأن يحافظ على مسافة واحدة من مختلف الأحزاب، مع ما يعنيه ذلك من إقرار بالهزيمة وإضعاف لحزب ابنه المدلل، أو أن ينحاز إلى ابنه ويعلن الحرب على خصميه الأساسيي (حركة النهضة ورئيس الحكومة)، مع ما يعنيه ذلك من دخول في مواجهة مفتوحة ضد حليفه السابق وضد رئاسة الحكومة باعتبارها السلطة التنفيذية الأقوى حسب الدستور. وقد اختار رئيس الجمهورية (أو اختار له مستشاروه والجهات التي تقف خلفهم) أن يستعمل كل أوراقه في معركة تجاوزت المستوى السياسي المحض لتصبح معركة "وجود".
اختار الرئيس أن ينزاح عن دوره باعتباره "رئيسا" لكل التونسيين؛ إلى دور جديد يمكن اختزاله في الدفاع عمّا تبقى من حركة نداء تونس، وفي حماية مصالح ابنه
يعلم رئيس الجمهورية جيدا أن استعادة يوسف الشاهد لصلاحيات رئيس الحكومة قد جعله يتحرر من الدور الذي أراده له الباجي قائد السبسي، أي دور الوزير الأول الذي يتلقى تعليماته من قصر قرطاج، كما كان معمولا به في عهد المخلوع. كما يعلم رئيس الجمهورية جيدا، أن موازين القوى في صورة تواصل الأمر على ما هو عليه، تميل حتما لرئيس الحكومة "الشاب الطموح" ولا تميل لصالحه (إن اختار الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة) أو لصالح ابنه (إن أراد توريثه الدولة كما ورّثه نداء تونس قبل ذلك). ولذلك كله، اختار رئيس الجمهورية التصعيد على أكثر من واجهة: أولى الواجهات هي
التصعيد ضد حركة النهضة، وذلك بتبني خطاب "الجبهة الشعبية" التي تتهم النهضة بامتلاك "جهاز سري" كان وراء اغتيال البراهمي (بل كان يدبّر لاغتيال الرئيس نفسه والرئيس الفرنسي السابق هولاند)، أما واجهة التصعيد الثانية فهي ضد رئيس الحكومة باتهامه (في قضية منشورة لدى القضاء العسكري)
بالتخطيط للانقلاب. إننا أمام اتهامات خطيرة، وهي اتهامات قد تؤدي في حالة ثبوتها إلى محاكمة حركة النهضة؛ لمخالفتها قانون الأحزاب وتورطها في الإرهاب مما يعني إمكانية حلّ هذه الحركة بحكم قضائي، كما ستؤدي تلك الاتهامات (في حالة ثبوتها ضد رئيس الحكومة) إلى اتهامه بالخيانة العظمى، وبالتالي إلى القضاء على مستقبله السياسي هو ومن يقف وراءه في حرب "الشقوق".
لم يتردد رئيس الجمهورية في أن يدفع بالأزمة السياسية إلى حدودها القصوى، حتى لو كان في ذلك تهديد مؤكد لاستحقاقات الانتخابية القادمة، بل للسلم الأهلي ذاته
في ظل أزمة دستورية خانقة تتهدد مسار الانتقال الديمقراطي برمته (التعطيل المتعمد لتركيز المحكمة الدستورية، والأزمة التي تمر بها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، مع الحملات الممنهجة ضد هيئة الحقيقة والكرامة)، لم يتردد رئيس الجمهورية (مستعينا بالانحياز "البافلوفي" اليساري ضد كل طرف يقبل بالتعامل مع حركة النهضة أو يطبّع معها) في أن يدفع بالأزمة السياسية إلى حدودها القصوى، حتى لو كان في ذلك تهديد مؤكد لاستحقاقات الانتخابية القادمة، بل للسلم الأهلي ذاته. فلتصفية حساباته السياسية مع النهضة ورئيس الحكومة، لم يجد رئيس الدولة حرجا في التحالف مع اليسار "الوظيفي" الذي لم يغادر بعد منطق التناقض الرئيس الإسلاميين والتناقض الثانوي مع الرجعية البرجوازية، كما لم يجد الرئيس مشكلا أخلاقيا أو سياسيا في الزجّ بعدة مؤسسات سيادية (كالقضاء العسكري والأمن الرئاسي) في هذا الصراع السياسي الذي يدار ظاهرا بمفردات "قانونية"، وتحكمه في العمق قاعدة "أيديولوجية" استئصالية يقودها الطابور الخامس اليساري.
ولضمان الدعم الإقليمي، خاصة لدى القوى المناهضة للثورات العربية ولحركات الإسلام السياسي ذات المرجعية الإخوانية، لم يجد رئيس الدولة مهربا من الارتماء في حضن المحور السعودي- الإماراتي. فرغم موقف الرأي العام الدولي المناهض
لولي العهد السعودي، بل رغم مناهضة أغلبية الشعب التونسي ونخبه للسياسات السعودية في اليمن وسوريا، مع اختلاف بينهم في باقي المسائل التي تهم الربيع العربي، أصرّ الرئيس التونسي على فك عزلة "الأمير الطائش" ووجه له دعوة لزيارة تونس. بل زاد في سياسة الاستفزاز بأن منح ولي العهد السعودي الصنف الأكبر من وسام الجمهورية التونسية.
أصرّ الرئيس التونسي على فك عزلة "الأمير الطائش" ووجه له دعوة لزيارة تونس. بل زاد في سياسة الاستفزاز بأن منح ولي العهد السعودي الصنف الأكبر من وسام الجمهورية التونسية
إننا أمام شكل أقصى من أشكال العبث السياسي: منح وسام الجمهورية لرمز من رموز محاربة ثورتها، ولمن استقبل مخلوعها وما زال يصر على عدم تسليمه. ولكنّ درجة العبث تقلّ عندما نتذكر أن الباجي قائد السبسي كان رجل المنظومة القديمة، ورجل ثورتها المضادة؛ الذي أوصله الدعم الإماراتي- السعودي إلى قصر قرطاج. ولا شك في أن رئيس الدولة لم ينس هذا الجميل وأراد أن يردّه في وقت تتقاطع فيه مصالحه مرة أخرى مع مصالح ولي العهد السعودي بعد انفراط عقد "التوافق". فالباجي قائد السبسي يبحث عن تقوية علاقاته مع حليف إقليمي موثوق لمواجهة النهضة ورئيس الحكومة، ومن يقف خلفهما في الحلف القطري- التركي، أما ابن سلمان فإنه يبحث عن متنفس سياسي، ويريد أن يؤكد استمرارية دوره المفصلي في المسائل الإقليمية، ولم يكن ليجد أفضل من الجمع بين النقيضين، أي الجمع بين زيارة مصر (حيث نجحت سياسة الانقلاب العسكري) وتونس (حيث نجحت سياسة الانقلاب الناعم باستعمال الآليات الديمقراطية ذاتها).
بعد استيئاس الباجي قائد السبسي من التوافق مع حركة النهضة، وبعد أن استيقن من محدودية حظوظه في الاستحقاق الانتخابي القادم، اختار رئيس الجمهورية أن يدخل في مواجهة كسر العظام ضد النهضة وحليفها، رئيس الحكومة يوسف الشاهد. إنها معركة حياة أو موت بالنسبة إليه، وقد لا يكون غرضه من هذه المعركة تحقيق الانتصار بقدر ما يهمه إنزال أكبر ما يمكن من الخسائر بأعدائه وأعداء ابنه من بعده. ولعل أكبر أولئك الأعداء هو مسار الانتقال الديمقراطي ذاته، وهو ما يعني أن غاية الباجي هي تأزيم الوضع السياسي، والدفع به إلى نقطة تُخوّل له تأجيل الانتخابات بحكم وجود"خطر داهم".
اختار رئيس الجمهورية أن يدخل في مواجهة كسر العظام ضد النهضة وحليفها، رئيس الحكومة يوسف الشاهد. إنها معركة حياة أو موت بالنسبة إليه
فرغم ارتفاع السقف السياسي للباجي وحلفائه في الجبهة الشعبية الاتحاد العام التونسي للشغل، فإنهم لن يزهدوا في تحقيق مطالب أقل. ولعل أهم تلك المطالب هو "تهرئة" حركة النهضة انتخابيا بمشروع التسوية في الميراث وما يعنيه من حرج للنهضة. فسواء أوافقت عليه (لتخسر جزءا مهما من قاعدتها الانتخابية)، أم رفضته (لتكون تحت قصف مركز واتهامات بالرجعية ومعاداة المرأة)، فإنها ستكون تحت ضغط كبير.
ولكنّ التهرئة تتجاوز المستوى الانتخابي لترتبط بالمستوى القانوني في قضيتي الجهاز السري والغرفة السوداء، مع التلويح المتكرر من طرف اليسار الاستئصالي بإمكانية حل الحركة بحكم قضائي، وهو تلويح يكتسب خطورته من إسناد قضية الاغتيالات لقاضي التحقيق 12 بالقطب القضائي للإرهاب، ذلك القاضي الذي كان وراء "إشاعة" الأمن الموازي، والذي كان هو من أمر بإيقاف السيد عبد الكريم العبيدي، رئيس فرقة حماية الطائرات، 14 شهرا؛ قبل أن تبرّئه دائرة الاتهام.
كل المؤشرات تدل على أن الدعم الدولي (باستثناء فرنسا) قد تحوّل إلى يوسف الشاهد، وإلى تقوية التحالف بين النهضة والمنظومة القديمة
مهما كانت مآلات التحركات الأخيرة للرئيس الباجي قائد السبسي، والتي ستعقبها تحركات أكثر "شبهة"، لعل أخطرها زيارة المشير حفتر وما يعنيه ذلك من تصعيد للتوتر مع حكومة طرابلس، ومن تهديد لسلامة الآلاف من التونسيين في الغرب الليبي، فإن من المؤكد أن ما يقوم به رئيس الدولة ليس إلا "غرغرة سياسية" صادفت "هوى استئصاليا" عند رموز اليسار. فكل المؤشرات تدل على أن الدعم الدولي (باستثناء فرنسا) قد تحوّل إلى يوسف الشاهد، وإلى تقوية التحالف بين النهضة والمنظومة القديمة. ولكن من المؤكد أيضا أنّ هذا الطيش السياسي قد يدخل البلاد في أزمة سياسية غير مسبوقة، بحكم تهديده لمسار الانتقال الديمقراطي، بل بحكم سعيه إلى الدفع بالتناقضات بين النهضاويين واليسار إلى مرحلة اللاعودة، تلك المرحلة التي قد تنفتح على ممكنات كارثية ليس أقلّها خطرا "الحرب الأهلية" أو سيناريو الانقلاب والعودة إلى مربع الاستبداد.