(1)
ماذا يتبقى في ذاكرتك من 2018؟
لا تفكر في السؤال كثيراً، كل ما عليك أن تتذكر أهم ثلاثة أحداث أو مواقف أو مشاعر تطفو سريعا على سطح أفكارك المتلاطمة، وبعدها حاول أن تنسى إجابتك السريعة، وابدأ في قراءة هذا المقال ببطء وتركيز.
(2)
بالنسبة لي، سأكون أمينا في تقديم إجابة ثلاثية لأول حدث وأول موقف وأول شعور خطر ببالي، بدون تفكير كاف في وقائع عام 2018:
أول حدث: مقتل الكاتب السعودي جمال
خاشقجي في قنصلية بلاده.
أول موقف: قرار عودتي لمصر بعد حملة اعتقالات العيد التي شملت الدكتور يحيى القزاز والسفير معصوم مرزوق وآخرين.
أول شعور: إحساس ضاغط بالعجز، مصحوب باستياء عام يتجاوز سلطات القمع إلى الذات، مروراً بأطياف المعارضة وتنويعات الجمهور المنشغل بالشأن العام.
(3)
السؤال التالي:
هل هذا ما حدث بالفعل في 2018؟ وهل هذه الاختيارات ستظل ثابتة بعد فترة كافية من الدراسة ومراجعة أحداث العام بهدوء وتمعن؟
المؤكد أن اختياراتي ستلتقي مع اختيارات كثيرين في الحدث مثلاً، وربما في الشعور، لكن الاختيار سيختلف حتماً بالنسبة للموقف؛ لأنه يبدو "شبه شخصي" برغم ارتباطه بالسياسة ورفقة المقاومة، لكن السؤال يظل قائماً بالنسبة للاختيارات الثلاثة: هل هذا بالفعل أهم ما حدث في عام 2018؟
(3)
الإجابة العميقة تقول: لا.
فليس من العدل ولا من العقل أن يغطي حدث مقتل خاشقجي على مقتل آلاف المدنيين في العالم بغير ذنب، في بلاد نعرفها كاليمن وسوريا والعراق وليبيا، وفي بلاد لا نذكرها لأننا لا نعلم ما حدث فيها، ولم يفرضها علينا الإعلام من خلال أخبار وصور تحتل مكاناً في ذاكرتنا.
(4)
إذن، ذاكرتنا ليست ملكنا تماماً، فهناك من يتحكم في ذاكرتنا، وبالتالي يتحكم في مواقفنا وفي مشاعرنا، بل إنه يستطيع أن يفرض علينا القضايا بالطريقة التي تلائمه، بحيث نتذكر مقتل شخص واحد مثلاً، وننسى مقتل أقوام وأمم، أو نخفض من مشاعر الاهتمام بمآسي الشعوب باعتبارها قضايا محل بحث وسجال وتعميم، فنقول: سجناء الرأي، الشعب اليمني، المواطنون الذين يعيشون تحت الخط الأدنى للفقر.. إلخ.
وهذا ما يسميه علماء النفس (والتسويق أيضاً) التحكم في البشر عن طريق "الصَب لمينال" أو "الوعي الباطن"، وهو الموضوع الذي يشغلني في السياسة أكثر مما يشغلني في صرعات استخدام هذا المفهوم في الإعلانات وتعديل السلوك الفردي، بل وصل الحال إلى استخدامه في التنحيف وتلوين العينين.
(5)
ربما يرجع مفهوم "الإدراك اللاشعوري" أو "
التفكير الخفي" إلى فلاسفة قدماء، قبل أن يتحدث عنه عالم النفس سيجموند فرويد بتعمق أكثر، فتنطلق بعده صرعة "التنويم المغناطيسي" التي تكشف عن قدرة الفرد الذي يمتلكها على التوجيه والتحكم في الآخرين بالإيحاء، بحيث تتحول إرادتهم إلى إرادة مزيفة ومستلبة لصالح المتحكم. وإذا تذكرنا حجم الاهتمام الأمريكي بألفاظ "الريموت كونترول"، ومدى شيوع تعبيرات "التحكم عن بعد" في السياسة الأمريكية، فإن هذه الملاحظة تدفعني للتفكير في إجابتي بارتياب، بحيث تقتضي المراجعة المتأنية أن اسأل نفسي: هل كانت هذه الإجابة السريعة إجابتي فعلاً؟ أم أنني منوَم مغناطيسيا وأجيب كما أملاني "المتحكم الخفي"؟
(6)
تأملت جولة زيارات الأمير محمد بن سلمان لعدة أقطار عربية قبل وصوله إلى الأرجنتين لحضور اجتماعات "قمة العشرين"، وسألت نفسي عن الهدف من هذه الجولة المكثفة المرهقة في توقيت مضغوط، وحاولت تطبيق نفس الطريقة التي بدأت بها هذا المقال، وكان انطباعي الأول: أن الأمير يعالج إصابته بطريقة "الصَب لمينال"، فهو يريد أن يؤكد لنفسه قبل أن يؤكد للعالم أنه "الملك القادم"، وأنه قوي وواثق ومؤهل لحكم بلاده، وأن العالم عليه أن يقبل به ولا يتوقف أمام اتهامات غير مؤثرة، بل وأن هناك أطرافاً خبيثة تتآمر ضده. وهذا التصرف تؤيده تصريحات الرئيس الأمريكي الذي تعتمد بلاده سياسة براجماتية تفصل المنفعة عن الأخلاق، وترفع شعارات من نوع: "القوة تصنع الحق"، أو "دعهم يقولون ما يريدون ما دمنا نقدر على فعل ما نريد". وهذه السياسة الواقعية التي تعكس ما يردده عبد الفتاح السيسي في مصر تحت مسمى "القوة الغاشمة"؛ تكفي لكي يتعمق بداخلي وبداخل كثيرين ممن اتفقوا معي في الاختيار الثالث: "شعور العجز والاستياء".
(7)
شعوري بالعجز إذن ليس ضعفاً شخصياً، لكنه نتيجة فعل ممنهج تقوم به قوى خفية، تسعى لتزييف إرادتي والتحكم فيها عن بعد، وهذا يذكرني بما فعله "جيمس فيكري" في نهايات الخمسينيات؛ عندما روج لتسويق المنتجات من خلال "إعلان خفي" يتم إضافته في أفلام السينما في "إطار زائد" فلا تلحظه أعين الجمهور، لكنه يؤثر فيهم من خلال الإدراك الباطن. فمن المعروف أن العين البشرية لا ترى أكثر من 24 صورة في الثانية، لذلك تتكون اللقطة في السينما من (24 صورة ثابتة) وكان فيكي يضيف الصورة الخامسة والعشرين لإعلان مكتوب فيه "اشرب كوكا كولا" أو "تناول الفيشار"، مما أدى لترويج هذه السلع وزيادة مبيعاتها. لكن "فيكري" تعرض بعد عام واحد من رواج "حيلته الخفية" إلى "حيلة خفية أخرى"، فخرج على شاشات التلفزيون ليعلن في انكسار أن تجربته غير دقيقة ولم تخضع لاختبارات، وأنه استخدمها للحصول على إعلانات بدون تيقن من نتائجها. وبدأت السلطات الأمريكية في التضييق على وسيلة "الإعلان الخفي"، في الوقت الذي انتشرت فيه مؤلفات تتحدث عن سيطرة الاستخبارات الأمريكية على هذه الوسيلة للتأثير في العالم وقيادته عن طريق "الوعي الباطن" أو "الإدراك الخفي". ثم ظهر علم صناعة الصورة النمطية، ونجح كينيدي في أول انتخابات يتم فيها تطبيق "صناعة النجم السياسي"، كما تمت تجربة الطريقة في ما عرف بصناعة النجوم في هوليوود، بصرف النظر عن كفاءتهم في الأداء وثقافتهم الفنية. وكانت مارلين مونرو هو الوجه الفني النسائي لنجومية كينيدي السياسية، كما كان جيمس ديني هو الوجه الفني الذكوري للنجم الشباب المصنوع. وهذا يعني أننا نعيش تحت هيمنة "أباطرة التصنيع الخفي" لكل شيء في حياتنا، أو حسب تعبير عالم الاتصالات هربرت شيللر؛ نعيش تحت سيطرة مديري العقول الذين يبرمجون كل شيء في العالم، حتى أفكارنا ومشاعرنا والمفردات التي نتحدث بها.
(8)
إذن الخوف الذي نعيشه، ومشاعر العجز التي تحاصرنا، هي بالأساس منتج تم تصنيعه بمعرفة هذه القوى، ولكي نتحرر من العجز والخوف، علينا أن نواجه هذه
المشاعر الخفية بالتفكير الأعمق وبالشفافية، والأهم بوضع كل جزئية في سياقها الاشمل. فمقتل خاشقجي ليس مجرد حادث لمقتل فرد ينتهي بإطاحة أمير من الحكم، لكنه جزء من ظاهرة استهانة "القوى الغاشمة المهيمنة" بحياة الأفراد وحرياتهم وحقوقهم، وما خاشقجي إلا "نقطة دم" نتعامل معها كعينة للدماء البشرية المهدورة في كل أرض وفي كل زمان، ومن هنا يكتسب الدفاع عن "الفرد" مشروعية الدفاع عن كل المقتولين غدراً، بل ومشروعية الدفاع عن الإنسانية.
[email protected]