يمثل الإعلام
الغربي بوسائله ومنصاته الكثيرة مصدرا مُهمّا من مصادر الخبر والمعلومة في العالم
العربي. بل إنه تحول بسبب ضعف آداء الإعلام العربي وارتهانه للسلطة السياسية إلى مصدر موثوق للخبر والتحليل والرأي بشكل عام وليست قضية اغتيال الصحفي السعودي إلا مثالا صارخا على ذلك.
لا تقتصر قضية اغتيال الصحفي والكاتب السعودي جمال خاشقجي إذن على قدرتها الكبيرة والسريعة في حشد الرأي العام العربي والدولي بسبب رمزيتها وبسبب الطريقة التي تمت بها لكنها تستمد امتدادها من الدور الذي لعبه الإعلام في تغطية الجريمة.
تدويل قضية خاشقجي
إن تحول القضية إلى قضية رأي عام عالمية إنما كان فيه الدور بارزا للإعلام الأجنبي وخاصة الأمريكي والتركي أساسا. أما تركيا فذلك يعود إلى كونها الأرض التي وقعت عليها الجريمة من ناحية ولكونها حاضرة بشكل مباشر فيها عبر مرافقة الضحية أو خطيبته. أما الإعلام الأمريكي فأساس اهتمامه بالقضية إنما يرجع أولا إلى كون الضحية يقيم على الأرض الأمريكية وهو كذاك كاتب في واحدة من أشهر الصحف المحلية صحيفة "واشنطن بوست".
لكن من جهة مقابلة تمثل القضية في علاقتها بنظام الحكم في السعودية وعلاقة الولايات المتحدة بهذا النظام سببا مُهمّا من أسباب التركيز عليها وعلى مجرياتها. لكن بشكل عام لا يزال الإعلام الغربي فاعلا أساسيا من فواعل
التأثير في المشهد العربي بشكل عام وهو تأثير لا يقتصر على المستوى السياسي بل يتعداه خاصة إلى المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بشكل عام.
موضوعية نسبية
يرتبط الإعلام الغربي بشكل مباشر على خلاف ما يعتقده البعض من المراقبين العرب بالدولة أو برأس المال بسبب طبيعة المرفق نفسه الذي يستوجب اعتمادات مادية هائلة مقارنة بطبيعة الإنتاج غير المادي الذي يقدمه. فالقول باستقلالية الإعلام الغربي هو قول غير موضوعي خاصة إذا اعتبرنا قوة الإعلام الخاص مقارنة بالإعلام الحكومي في نفس هذه الدول.
صحيح أن أغلب المؤسسات الإعلامية تحصل على عوائد مُهمّة من الإشهار والحملات الإشهارية لكنها لا تكفي دائما في تغطية المصاريف الباهظة وهو ما يجعل من القول بالموضوعية المطلقة للإعلام الغربي قولا نسبيا.
لكن المؤسسات الحاكمة في الغرب وصاحبة القرار السياسي الأخير فيه اتخذت خلال السنوات الأخيرة قرارا مفصليا عندما اختارت جميعها تقريبا التوجه مباشرة إلى المشاهد العربي بلغته الأم لكسر حاجز اللغة. برزت للمتلقي العربي قنوات إخبارية باللغة العربية من فرنسا وبريطانيا وروسيا وأمريكا وألمانيا في تغطيات تختلف عن التغطيات العربية المعلّبة. لكن كثيرين من المشاهدين العرب لا يزالون يعتقدون أن هاته القنوات هي قنوات عربية فقط لكونها ناطقة بالعربية وأن من يعمل فيها صحفيون عرب ولا يزالون لم يدركوا أن هذه القنوات تحمل أجندة خاصة مرتبطة أساسا بمصالح الدولة التي توجد بها القناة أساسا.
مباشرة مع المُتلقِّي
لقد أدركت الدول الغربية قيمة المشاهد العربي كما أدركت أيضا ضعف ثقته في إعلامه المحلي كما كانت واعية بأن حاجز اللغة بين المشاهد الناطق بالعربية وبين إعلامها الناطق بالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية أو الروسية سيحد من تأثيرها على الرأي العام العربي فاتجهت إلى مخاطبته بلغته الأم. لقد نجحت هذه القنوات وفي مدة وجيزة جدا في الاستئثار بنصيب كبير من المشاهدين في الدول العربية سؤال في المغرب العربي أو في المشرق وصارت منافسا حقيقيا للقنوات المحلية باستثناء قناة الجزيرة التي تبقى رائدة في مجالها.
إن مقارنة بسيطة بين أداء الإعلام العربي الرسمي والخاص وبين القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية يكشف بوضوح الفرق الشاسع بين إعلام موجّه بشكل كلي عربيا وبين إعلام يتحلى بقدر من الموضوعية والدقة في التعاطي مع الخبر والمعلومة والطرح والتحليل. إن المسافة بين الإعلام العربي وبين الإعلام الناطق بالعربية وإن بقيت مسافة شاسعة فإن الطرح الغربي الذي لا يخلو من أجندات سياسية وحضارية تحاول عبرها الدول المشرفة استقطاب المشاهد العربي وفرض رؤية معينة للأحداث والوقائع والتطورات في المنطقة العربية.
من جهة أخرى يمثل الفارق الحضاري بين الباث والمتقبل جزءا مُهمّا من العملية التواصلية، حيث لا يزال الرأي العام العربي مسكونا بفكرة الهزيمة الحضارية ولا يزال يرى في الآخر الغربي منتصرا. هذا الفارق إضافة إلى المسافة الموضوعية النسبية التي ينجزها الإعلام الأجنبي مع الخبر هي التي تزيد من نسبة حضور الفعل الإعلامي الخارجي وتأثيره عند الرأي العام المحلي.
لكن مهما بلغ حجم انغماس الفاعل الإعلامي الأجنبي في المشهد العربي فإنه يبقى عاجزا عن التماهي مع نبض الشارع العربي المثقل بهمومه وآلامه وتحدياته ومطالبه التي لا يمكن لأي منبر إعلامي أن يعبر عنها مهما بلغ من الموضوعية والحياد.
الإعلام البديل
بناء عليه فإن أهم التحديات التي تطرح اليوم على الإعلاميين العرب إنما تتمثل في تحقيق القدر الممكن والمستطاع من الموضوعية في التعامل مع الخبر، خاصة أن التهديدات لا تقتصر على الجانب الخارجي فقط بل تتعداه إلى صعود الإعلام البديل الذي يحقق يوما بعد يوم انتصارات كبيرة بين الجماهير العربية خاصة من الشباب.
لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى مصدر أساسي وسباق في عرض الخبر وفي نشره قبل وسائل الإعلام الرسمية الأخرى بشكل ضاعف من صعوبات الإعلام العربي في استرجاع المكانة التي كانت له عندما كانت الساحة خالية تماما من كل نوع من أنواع المنافسة.
لم يعد من الممكن اليوم احتكار الخبر أو التغطية عليه أو تعتيمه كما كان الأمر سابقا، بل إن الواقع التواصلي الجديد يفرض بقوة ضرورة التأقلم مع السياق الجديد بشكل يمنع القطيعة النهائية بين المُتلقي العربي والسلطة الرابعة.
لكن من ناحية أخرى لا يمكن الحديث في السياق العربي عن إمكانية تحرير قطاع الإعلام دون الحديث عن ضرورة الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الإعلامية في إطار تحقيق مكسب الحرية العام داخل المجتمع والدولة.
إن تحرير الإعلام في الدولة العربية لا ينفصل عن مطلب الحرية العام الذي طالبت به الشعوب ولا تزال وقدمت في سبيله آلاف الشهداء وهو ما يجعل منه أدة للتحرر وغاية له في نفس الوقت.