رجال وسيدات الأعمال هم عصب أي
اقتصاد في كل زمان ومكان، والدعامة الكبرى في ازدهار الدول وارتقاء الأمم، وتزداد أهميتهم في عصرنا الحاضر الذي يشهد تخلف المسلمين وعدم قدرتهم على استغلال مواردهم، واعتمادهم على غيرهم في تلبية حاجاتهم.
فلقد اقتصر المسلمون للأسف الشديد على أداء العبادات، ونسوا أو تناسوا ما أمرهم به الإسلام من معاملات، وأهملوا دعوته الحكيمة إلى الحياة السعيدة وفق نظام اقتصادي رباني، أحد في تشريعاته، حكيم في أصوله، قويم في تطبيقاته، أجدى في نفعه وفائدته. ورغم ما تعانيه الأمة، فما زال الأمل معقودا على رجال وسيدات الأعمال للنهوض باقتصادها والعودة بها إلى ما كانت عليه في سابق عهدها من قوة في الاقتصاد، وازدهار في المعرفة، ورحب في المعيشة.
إن مكانة رجال وسيدات الأعمال تبدو واضحة في قوله تعالى "وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّه وآخرون يقاتلون في سبيل الله" (المزمل: 20). فرجال وسيدات الأعمال يجاهدون في ميدان الاقتصاد، ولا يقل عملهم بل وأجرهم عن المجاهدين في ميدان القتال، لذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" (رواه الترمذي). ويقول القرطبي في هذه الآية: سوّى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، ولهذا كان ابن عمر يقول: ما خلق الله موته أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلى من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغي من فضل الله ضارباً في الأرض".
ويكفي رجال وسيدات الأعمال منزلة أن الله يحبهم، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب المؤمن المحترف" (رواه القضاعي)، ويغفر لهم "من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له" (أخرجه المنذري). "إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، قالوا: فما يكفرها يا رسول الله؟ قال: الهموم في طلب المعيشة" (رواه الطبراني).
كما يكفي رجال وسيدات الأعمال شرفا أن أفضل الخلق وهم الأنبياء قد مارسوا الأعمال الاكتسابية في حياتهم فكانوا - عليهم الصلاة والسلام - عمالا يرتزقون من عمل أيديهم وعرق جبينهم. فقد كان داود زرادا، وكان آدم حراثا، وكان نوح نجارا، وكان إدريس خياطا، وكان موسى راعيا. وكان محمد صلى الله عليه وسلم راعي غنم، ثم تاجرا، وكانت زوجته خديجة رضي الله عنها أعظم سيدة أعمال في الإسلام، كما كان العديد من العشرة المبشرين بالجنة رجال أعمال.
ويكشف واقع رجال وسيدات الأعمال اليوم أن هناك فئة من هؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى: "رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ" (النور: 37).
فهؤلاء استعملوا ما وهبهم الله من المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربهم، فعظموا الإنتاجية، وعمروا البلاد، وسعوا إلى تشغيل الشباب، وتقربوا إلى الله تعالى بأنواع عديدة من القربات؛ طمعا في حسن ثواب الدنيا والآخرة، ولم يزدهم المال إلا تواضعا وخشية لربهم، وشكرا على هذه النعمة.
وإلى جانب هذه الفئة، توجد فئة أخرى فتنها المال وأعماها الثراء، فتعلقت بالشهوات من خمور وقصور، وقناطير مقنطرة من ذهب وفضة، وسيارات فارهة وخدم وحشم وحراسات شخصية، وفرحت بالمال فرح البطر الذي ينسى المنعم بالمال وينسى نعمته، وينشغل به قلبه، ويتطاول به على خلق الله.
كما يكشف واقع
رجال الأعمال اليوم أن فيهم من كانوا إخوانا متحابين، فلما تعاملوا فيما بينهم بالدينار والدرهم انتكس ورعهم، ودب الخلاف والتنازع بينهم، وتبادلت الاتهامات لذممهم، وتمكن الشيطان من نفوسهم، وحال بينهم وبين سلامة صدورهم.
وهذا يتطلب وقوف رجال وسيدات مع أنفسهم ومراعاة المسؤولية الاستخلافية الملقاة على عاتقهم في عمارة الكون، فقد حدد القرآن الكريم رسالة رجال وسيدات الأعمال في الحياة في قوله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون" (الذاريات: 56). فالعبودية لله لا تقتصر على ما يقوم به العبد من عبادات، بل تمتد لتشمل جميع سكناته وحركاته والقيام بمهمة الخلافة كما أراد الله، قال تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّه رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين" (الأنعام: 162-163). "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة" (البقرة: 30).
والخلافة في الأرض في حقيقتها تمثل عمل الكائن الإنساني، بصفته نائبا عن ربه في ما سخره له، أمينا في ما يسره بين يديه، وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها، وذخائرها ومكنوناتها، وتحقيق إرادة الله - المالك الحقيقي للكون - في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها.
قال تعالى: "هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا" (هود:61). والاستعمار من الله هو طلب العمارة، وهذا الطلب المطلق من الله تعالى يدل على الوجوب، فلا تدل قرينة علي صرفه عن غيره، فالتعمير والتنمية واجب على المسلمين كافة كل بحسب طاقته.
يقول الجصاص في تفسير هذه الآية: "يعني أمركم من عمارتها ما تحتاجون إليه، وفيه دلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والفراش والأبنية". ويقول القرطبي: "وأمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها"، فلا عبادة من دون عمران، ولا عمران بدون رجال وسيدات أعمال.
لذا فالعمران فرض كفاية على الأمة المسلمة شرعا لتحقيق الرفاه الدنيوي والأخروي، وفرض الكفاية يطالب بأدائه كل المكلفين، وإذا فعله واحد سقط الطلب عن الآخرين، وإذا لم يفعله أحد أثموا جميعا وينقلب إلى واجب عيني.
ورجال وسيدات الأعمال في تحقيقهم للمسؤولية الاستخلافية ينبغي أن يضعوا نصب أعينهم الوصايا القرآنية الخمس؛ لتحقيق تلك المسؤولية الاستخلافية والنجاح في حياتهم الدنيوية والأخروية، وتتمثل تلك الوصايا في أوامر ثلاثة ونهيان، في قوله تعالى: "لَا تَفْرَحْ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ? إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (القصص: 76-77).
لذا فرجال وسيدات الأعمال الذي يسمون بأنفسهم فوق الصغائر ويرغبون في نيل حظ الدنيا والآخرة، ويحسنون كما أحسن الله إليهم، يقدرون الآخرة حق قدرها، ويضعون الدنيا موضعها فيأكلون طيبا، وينفقون قصدا، ويقدمون فضلا. لا تدخل الدنيا قلوبهم، بل تكون في أيديهم واليد العليا خير من اليد السفلي، والمال قوام الحياة فلا يضيعوه، بل يجعلوه مطية إلى الآخرة وبذلك يحققون جوامع الخير فيفيدون أنفسهم، ويحققون البر والتنمية لمجتمعهم، وقبل هذا وذاك يقع أجرهم على الله، ويكسبون عز الدنيا وكرامة الآخرة.
لقد كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين الركن اليماني وركن الحجر في أقدس بقعة في الدنيا قولـه تعالى: "ربَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَة" (البقرة: 201). فهل أقام رجال وسيدات الأعمال الدنيا الحسنة، والصناعة الحسنة، والزراعة الحسنة، والتجارة الحسنة، والاقتصاد الحسن؟ إنه لا يكتمل تطبيق الإسلام إلا إذا استغنى المسلمون بأنفسهم عن غيرهم، وقامت مآذن المساجد إلى جانب مداخن المصانع في بناء الدين والحياة، وتنمية الروح والجسد.