ثمة تساؤلات عديدة بشأن خلفيات الانعطافة الكبيرة نحو
الشباب في استراتيجية الدولة، وكذا السياسات الحكومية في
المغرب. فأعلى سلطة في البلاد، أكدت على هذا الرهان، وعاتبت بقسوة مناهج التربية والتكوين بسبب تخريجها لأفواج للعاطلين، وعدم تناسبها مع متطلبات سوق الشغل.
بيد أن الملاحظة أن هذا التحول في الرؤية والاستشراف لجهة الشباب، إنما جاء في سياق إعادة ترتيب البرامج الاجتماعية، التي هي الأخرى نالت حظها من النقد القاسي، كونها كثيرة ومبعثرة وغير متناسقة وضعيفة الفعالية والأثر.
والحقيقة، أنها ليست هذه هي المرة الأولى التي ترتفع أولوية الشباب إلى رهان استراتيجي للدولة، فقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، في سياق اجتماعي متفجر، أن أعلن عن تأسيس المجلس الاستشاري للشباب سنة 1990، وأسند رئاسته للقيادي الاتحادي لحبيب المالكي، وذلك عقب الإضراب العام الذي فجر الأوضاع في فاس، وكاد يتحول إلى انتفاضة عارمة احتجت على تدهور الأوضاع الاجتماعية، ولم يتردد الملك الحسن الثاني رحمه الله وقتها في البوح بأسباب تداعي الدولة لهذا المجلس، وذلك في خطاب العرش لسنة 1991، الذي حذر فيه من زلزال قادم في الوطن العربي. وقد كان الملك الراحل واعيا بأن السياسات الحكومية عجزت عن تحقيق رهانات الشباب وتطلعاتهم، فاضطر إلى تشكيل هذا المجلس، بإشراك للأحزاب الوطنية والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني لاحتواء الغضب الشبابي وتأطيره، والبحث عن خيارات إدماج الشباب وتقليص نسب
البطالة، خاصة في صفوف الخريجين حاملي الشهادات.
اليوم، نستعيد تقريبا اللغة ذاتها، لكن بقساوة أكبر في النقد، توجه للسياسة التعليمية كونها تخرج العاطلين، وتتبنى تكوينات لا تتناسب مع سوق الشغل، وللسياسة الاجتماعية، كونها تفتقد إلى التناسق والالتقائية التي تضمن رفع مستويات استهدافها الاجتماعي الشباب.
خطاب الدولة لم يحمل جديدا، سواء على مستوى نقده للسياسات الحكومية، أو على مستوى الخيارات التي طرحها. فمنذ أزيد من عشر سنوات، أصدر المجلس الأعلى للتعليم تقارير تشخيصية مهمة، تتضمن النقد والاستشراف والخيارات ذاتها، وبناء على مخرجاتها، تم تبني البرنامج الاستعجالي لإصلاح منظومة التربية والتكوين، والذي رصدت له مبالغ مالية ضخمة، لا يزال التساؤل ساريا بشأن حكامتها وشفافية صرفها. كما أُحدثت تغييرات بيداغوجية مهمة في الجامعة بناء على هذا التشخيص، وانعطفت الدولة بالكامل إلى دعم التكوينات المهنية على حساب التكوينات الأساسية، وأعطيت الأولوية للمؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المحدود على المؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المفتوح. وفي المحصلة، استمرت الدولة في إنتاج نفس الخطاب النقدي، كما ولو أن رزمة
الإصلاحات التي تم تبنيها لم تحقق شيئا مقنعا، بل كما ولو أن المشكلة في الجوهر هي التكوينات غير المناسبة لسوق الشغل.
في خطاب الدولة دائما هناك مضمرات يصعب التقاطها دون استحضار المؤشرات المتتابعة، فالمسكوت عنه في التشخيص، هو أن الجامعة اليوم أصبحت عاجزة عن استقطاب الطلبة الذين يقبلون بكثافة على التكوينات التي تلائم سوق الشغل. وبسبب ذلك يختارون، في نهاية المطاف، التكوينات الأساسية اضطرارا، بعد أن تقلص الحصص المحددةحظوظهم. ولذلك، ثمة حاجة لطرح السؤال عن الخلفيات الحقيقة وراء انعطافة الدولة نحو الرهانات الشبابية.
في مسار سياسة الدولة ثمة جواب واضح، يربط بين رفع قضية الشباب إلى رهان استراتيجي وبين الانتفاضات الاجتماعية، سواء منها التي وقعت أو التي يتوقع حصولها، كما أن مجمل التعبيرات الاحتجاجية التي عرفتها سنة 2017/2018 تعطي صورة عن قراءة الدولة للوضع الاجتماعي، ورؤيتها التشخيصية والاستشرافية.
والتقدير أن ثمة نقاط تشابه كبيرة بين مختلف الحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب بين العهدين (عهد الحسن الثاني وعهد محمد السادس)، غير أن ما يميز موجة التعبيرات الاحتجاجية في عهد الملك محمد السادس، أنها أخذت خمسة أبعاد خطيرة وغير مسبوقة، على الأقل بالحجم الذي تفجرت به:
- البعد الأول، أنها تجاوزت مؤسسات الوساطة السياسية والنقابية والمدنية، وأنتجت خطابا نقديا قاسيا لهذا النخب ووسمتها (كما حصل في حالة حراك الريف) بـ"الدكاكين السياسية".
- البعد الثاني، أنها اخترقت الأرياف (البادية) التي ظلت لمدة طويلة تعتبر المجال المحفوظ للسلطة، وصانعة والتوازن ضد نخب المدنية المعارضة، فصارت تعبر عن مظلومية الهامش، الذي لم يستأثر بأي اهتمام، في الوقت الذي أخذ المركز حصة الأسد في النفقات والاستثمارات العمومية والخدمات الاجتماعية.
- البعد الثالث، أنها تتمحور على المطالب الحيوية، التي تجعل الحراك عاما وشاملا، وغير مقدور على تفكيكه من الداخل، ولا وصمه سياسيا بوصم يبعد الجماهير عنه.
- البعد الرابع، ويخص التكوين السياسي للشباب، إذ أظهرت تعبيراتهم الاحتجاجية في أكثر من محطة، أنهم لا يتأطرون بسقف دستوري ولا قانوني، ولا تشغلهم العلاقات التقليدية التي تحكم المؤسسات، ولا دورها فيؤملون من ورائها تحقيق تطلعاتهم، ولا يؤمنون بالتفاوض.
- البعد الخامس: أن حركية الشباب في العالم الافتراضي نجحت، ولأول مرة في التاريخ السياسي للمغرب، في أن تهزم الداخلية في انتخابات 2016، كما استطاعت أن تعري بفعل المقاطعة الشعبية زواج المال بالسلطة، وكبدت عددا من المقاولات القريبة من مركز السلطة خسائر باهظة واضطرتها للاعتذار للشعب والقيام بتخفيضات غير مسبوقة لاستعادة وضعها في السوق.
تفسير سلوك الدولة، في التقدير، يجد مستنده في طبيعة التعبيرات الاحتجاجية التي برزت سنتي 2017 و2018، وتوقعات الدولة للوضعية الاجتماعية التي يمكن أن يعرفها المغرب في السنوات القليلة القادمة، لا سيما بعد بداية اهتزاز المؤشرات الاقتصادية والمالية، وبروز متغيرات اقتصادية (تفاقم عجز الميزانية) ودبلوماسية (توتر العلاقة مع بعض دول الخليج) سيكون لها تأثير على المالية العمومية وقدرتها على الجواب على الطلب الاجتماعي الكثيف.
ولذلك، ضمن هذا الإطار، يمكن أن نقرأ انعطافة الدولة نحو الشباب، وتركيزها على إصلاح جدري لمنظومة الماء، لتقليص أسباب الاحتجاجات التي تنطلق من حاجات حيوية (حراك العطش)، وقبل ذلك، تأكيد الدولة في خطاب رسمي سابق على ضرورة استثمار 50 مليار درهم في التنمية القروية، وقرارها بالعودة إلى التجنيد الإجباري، وتعليل ذلك بالحاجة إلى إكساب الشباب الكفايات والتكوينات التي تسرع من ولوجهم لسوق الشغل.
ما من شك أن هذه الانعطافة مهمة، وهي تكشف حيوية منظومة الرصد الاجتماعي لدى الدولة، لكن المشكلة ليست في سلامة الرصد، وإنما في الخيارات التي تمكن الدولة من الجواب عن التحديات الاجتماعية المقلقة، إذ الجواب ربما في مكان آخر، أشارت إليه خطابات ملكية سابقة حين طرحت سؤال: أين الثروة؟ وكيف يحقق المغرب نسبا مهمة من النمو، في حين لا تصل ثمراته إلى الفئات الاجتماعية، ومنها الشباب.