حسب الدستور
التونسي، فإن سلطات رئيس الدولة تكاد تنحصر أساسا في مجالات السياسة الخارجية والأمن والدفاع، بالإضافة إلى بعض السلطات الأخرى التي تجعل منه الشخصية الثانية في البلاد بعد رئيس الحكومة، تلك السلطات التي تعطي لرئيس الدولة "وزنا اعتباريا" من جهة أنه المؤتمن أو المكلف بتوحيد الشعب بمختلف فئاته. وفي ظل التعطيل المتعمد لإرساء محكمة دستورية، تتكفل بالحسم في الخلافات المتصلة بتأويل فصول الدستور (خاصة بين الإسلاميين والمحافظين من جهة أولى، وبين العلمانيين والتحرريين من جهة ثانية)، استطاع رئيس الجمهورية أن يقدم نفسه باعتباره حامي الدستور والمرجعية الأساسية، بل الحصرية، لتأويله.
وكما هو متوقع، لم يخرج
خطاب رئيس الجمهورية بمناسبة الاحتفال بعيد
المرأة يوم 13 آب/ أغسطس 2018 عن استثمار الفراغ المؤسسي الناتج عن غياب المحكمة الدستورية. ورغم أنه من الصعب على الرئيس وفريقه أن يجادلوا بأدلة موضوعية على التزام مؤسسة الرئاسة بالدستور، إذ رفض الرئيس تقديم ملفه الصحي إلى الآن، وما زال مصرا على "التغول" على باقي السلطات، حاصة سلطة رئيس الحكومة، بالإضافة إلى تقديم مبادرات تشريعية لا علاقة لها بالمساواة أمام القانون ولا باستحقاقات الثورة، بل كانت أساسا في خدمة أركان نظام بن علي وتيسير رسكلتهم وإعادتهم إلى واجهة الحكم. رغم ذلك كله، فإن رئيس الجمهورية لم يجد حرجا في الاستحواذ خطابيا وعمليّا على دوري "رئيس كل التونسيين" و"حامي الدستور"، أو مرجعيته التأويلية العليا. وهو استحواذ سنتساءل في هذا المقال عن مدى مصداقيته، انطلاقا من القضية السجالية الأهم التي أثارتها لجنة الحريات الفردية والمساواة: قضية المساواة في الميراث بين الجنسين.
إننا أمام "تَونسة" صريحة للمنطق اللائكي الفرنسي الذي تكاد تتحول فيه الدولة إلى ديانة "وضعية" بحكم استيلائها على وظائف الأديان التقليدية
مثل أغلب الحداثيين التونسيين الذين يتحركون من خلفية لائكية فرنسية، هي أشكال إدارة العلاقة بين الديني والسياسي التي يراد تقديمها على أساس أنها "
العلمانية" أو"الحداثة" بإطلاق، انطلق رئيس الجمهورية في خطابه من مقدمة مغالطة مفادها أنّ "مدنية الدولة" تتناقض مع الاستئناس بالتشريع الديني. فالرئيس يصادر منذ البدء على أن الواجب الذي يفرضه عليه الدستور يجعله في حل من المرجعيات الأخرى (وهي أساسا مرجعية واحدة، مرجعية
الشريعة الإسلامية. ولكن السيد قائد
السبسي "يعوّمها" في صيغة الجمع بحكم وجود أقليات دينية أخرى كاليهود والبهائيين وغيرهم). إننا أمام "تَونسة" صريحة للمنطق اللائكي الفرنسي الذي تكاد تتحول فيه الدولة إلى ديانة "وضعية" بحكم استيلائها على وظائف الأديان التقليدية. ولكنّ رئيس الجمهورية الذي اختار"جمهوره" بعناية فائقة، باعتباره جمهورا متجانسا أيديولوجيا ومتحالفا طبقيا، كان يدرك جيدا أنه يتحرك على أرضية آمنة.
تشترك الغالبية العظمى من الجمهور الحاضر في الخطاب، والفئات المستهدفة منه، مع رئيس الجمهورية في افتراض التناقض بين مدنية الدولة والشريعة (والحال أن المدنية تقابل التوحش أو النظام العسكري ولا تقابل الدين بالضرورة). كما يشتركون معه في أن المنظومة الكونية لحقوق الإنسان هي منظومة منغلقة على ذاتها، وأنها لا تتحرك إلا ضدا على التشريعات الدينية (فالحقوق تُفتك من نظام مجتمعي أساسه الفكر والمخيال الدينيين، ولذلك يديرون
الصراع مع الدين على أساس التصادم والإلغاء المتبادل، وليس على أساس التكامل أو الانفتاح النقدي). وهو معطى يجعل من رئيس الدولة، واقعيا، رئيسا للقائلين بالمنطق اللائكي الفرنسي القائم على هيمنة الدولة على التشريع، وعلى العلاقة الصدامية بين الدين والقانون، لا رئيسا لكل التونسيين الذين لا يجدون أنفسهم في هذا الفكر. بل إن الرئيس لم يكن منفتحا على الحداثة التي يدعي تمثيلها؛ إلى الحد الذي يجعله رئيسا للقائلين بالعلمانية على أسس مغايرة لأسس اللائكية الفرنسية، وهي العلمانية التي نجدها في التجارب الأنغلوسكسونية، أو غيرها من التجارب الإنسانية المقموعة والمهمشة في خطابات أغلب النخب الحداثية التونسية.
الرئيس لم يكن منفتحا على الحداثة التي يدعي تمثيلها؛ إلى الحد الذي يجعله رئيسا للقائلين بالعلمانية على أسس مغايرة لأسس اللائكية الفرنسية
لقد رأى بعض المشتغلين بالشأن العام، أن الرئيس بإقراره مبدأ ازدواجية التشريع (تقنين المساواة والسماح لمن يرفضها باعتماد نظام المواريث الديني)، قد فكّ ارتباطه جزئيا بالتراث اللائكي الفرنسي، وانفتح على التراث العلماني الأنغلوسكسوني. وهو رأي قد يبدو صحيحا في الظاهر، ولكنه في تقديرنا المتواضع لا يمكن أن يكون مدخلا موثوقا لمراجعة الفلسفة اللائكية الفرنسية المهيمنة على إدارة العلاقة بين الديني والسياسي في تونس. فقد ظل السيد قائد السبسي منحازا إلى خلفيته اللائكية عندما اقترح تقنين المساواة (وجعلها هي القاعدة)، والإبقاء على الأنظمة التوريثية الأخرى (باعتبارها استثناء). وهو اقتراح لم يكن نتيجة حوار مجتمعي حقيقي وموسّع، بل كان نتيجة إملاءات دولية (عبر الجهات المانحة) صاغتها
لجنة الحريات العامة والمساواة، وقدمتها على أساس ارتباطها بالمنظومة الكونية لحقوق الإنسان، وهي مرتبطة أساسا بالمنظومة الدولية للتوسع والهيمنة والاستلحاق الثقافي باعتباره قاطرة أو دعامة للاستلحاق الاقتصادي. وقد كان الرئيس هنا أيضا مرة أخرى (بوعي أو بلا وعي) رئيسا لأعضاء اللجنة ولأولئك الذين يتبنون أفكارها، وليس رئيسا للمعارضين لأغلب مقترحاتها، سواء من منظور ديني أو من منظور عُرفي محافظ.
بصرف النظر عن مدى دستورية لجنة الحقوق الأساسية والمساواة (سواء من جهة خطاب التكليف أو من جهة التوصيات)، فإن رئيس الدولة قد أظهر من خلال تركيبة أعضائها أنه رئيس مجموعة معينة من التونسيين. كما أظهر الرئيس في خطابه أنه لا يقف على المسافة نفسها بين الفرقاء، بل
هو منحاز إلى فريق دون آخر. وما رفضه الضمني للاحتكام إلى الاستفتاء إلا دليل على وعيه بأن مقترحات اللجنة لا تعبّر عن فئة واسعة من التونسيين، الذين من المفترض فيه أن يُمثلهم هم أيضا. وقد كان في استطاعة الرئيس، تأكيدا لدوره باعتباره "موحّدا" للتونسيين، أن يدافع عن حق الأقلية في اعتماد مبدأ المساواة، ولكن كان من واجبه أيضا أن يراعي رأي الأغلبية، وأن يجعل من التشريعات الحالية أصلا ومن المساواة استثناء. ولا شك في أن مقترحنا السابق ينطلق من الاعتراف بتعدد المرجعيات داخل المجتمع التونسي، وبحق جزء من المواطنين (لأسباب تتعلق بحرية المعتقد المكفول بنص الدستور) في اعتماد مبدأ المساواة، ولكنه حق يجب ألا يصير هو القاعدة القانونية إلا عند الاحتكام إلى الاستفتاء.
هل إنّ من مصلحة مؤسسة الرئاسة، وباقي الفاعلين الجماعيين من اللائكيين والإسلاميين أن يتجاوزوا القضايا الهوياتية وأن يشتغلوا "معا" على القضايا الحقيقية التي ستنسف علّة وجودهم ذاتها؟
لتجنب أي صراعات هوياتية لا حاجة لنا بها ولا تخدم في النهاية إلا الواقفين على تخوم الدولة والمتربصين بها يمينا ويسارا، وللإصغاء لكل الأنساق الحجاجية بصورة متكافئة وغير منحازة، لم يجانب رئيس الدولة الصواب عندما دافع عن مبدأ التسوية بين الجنسين في الميراث، ولكنه لم يستطع أن يكون رئيسا لكل التونسيين عندما انحاز إلى مبدأ التسوية باعتباره قاعدة لا خيارا شخصيا. فرغم أنّ اعتماد مبدأ التسوية في الميراث باعتباره قاعدة قانونية (وبالتالي اضطرار العامل بتعاليم دينه إلى تبرير نفسه باعتباره استثناء أو شذوذا أو خيارا مترسبا من أزمنة ما قبل المواطنة)، هو قرار ذو رمزية عالية من منظور حقوقي تقدمي، فإنه أيضا قرار ذو تداعيات لا يمكن التحكم فيها من منظور اجتماعي. فاعتماد هذه القاعدة وإسقاطها (بمنطق الرضة لا بمنطق التدريج والتراكم) على واقع سوسيسو- ثقافي غير متقبل أو غير مستعد لها نفسيا وفكريا، سيزيد في تعميق الانقسامات المجتمعية وسيدفع بفئة كبيرة من المواطنين إلى النظر إلى الدولة باعتبارها دولة النخب اللائكية دون سواهم.
ختاما، فإن اعتماد مبدأ المساواة في الميراث باعتباره خيارا شخصيا؛ سيضمن لجميع الفرقاء حقهم في الاعتقاد والتعبير والفعل بمقتضى ما يؤمنون به، ولكنه في الوقت نفسه لن يجعل هنالك منتصرا ومنهزما؛ لأن إدارة الخلاف بطريقة الصراع العسكري أو الوجودي سيكون لها تداعيات كارثية على المجتمع التونسي ولو بعد حين. ولكن في ظل نظام سياسي أساسه تكريس التبعية والتخلف وإعادة إنتاجهما، هل إنّ من مصلحة مؤسسة الرئاسة، وباقي الفاعلين الجماعيين من اللائكيين والإسلاميين أن يتجاوزوا القضايا الهوياتية، وأن يشتغلوا "معا" على القضايا الحقيقية التي ستنسف علّة وجودهم ذاتها؟ أو بصيغة أخرى: هل يُسمح للدولة التي تفتقد مقوّمات السيادة (وللنخب المتحدثة باسمها)، أن تتحرك أو تقرر ضدّ إملاءات المانحين الدوليين وأذرعها "الحقوقية"؟