هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حتى قبل أيام قليلة فقط، سادت تفاؤلات بانفراجة نسبية في العلاقات التركية - الأمريكية التي تعاني من أزمات متعددة ومتزامنة في السنوات الأخيرة، حيث عيّنت واشنطن أخيراً سفيراً جديداً لها في أنقرة بعد شهور من شغر المنصب وسلمت أنقرة أولى طائرات F35 رغم معارضة الكونغرس فضلاً عن اتفاق الطرفين بخصوص منبج.
إفراج السلطات التركية قبل يومين عن القس الأمريكي أندرو برونسون، المعتقل منذ 2016 بتهمة التعاون مع الكيان الموازي المتهم بالمسؤولية عن المحاولة الانقلابية الفاشلة، ونقله إلى إقامة منزلية إجبارية (حبس منزلي) صبَّ في نفس معنى الانفراجة وتوافقات الطرفين.
لكن مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي، أطاح بكل ذلك فيما يبدو حتى الآن حين اعتبر ما حدث "غير كاف" وهدد أنقرة بعقوبات اقتصادية إن لم تفرج عنه سريعاً.
المعنى ذاته كرره ترمب في تغريدة له على موقع تويتر مهدداً تركيا بـ"عقوبات كبيرة" بسبب الاعتقال طويل الأمد لبرونسون مطالباً بـ"الإفراج الفوري" عنه، وهي تصريحات رفضتها تركيا على ألسنة عدد من المسؤولين في مقدمتهم الناطق باسم الرئاسة ورئيس البرلمان ووزير الخارجية وبمعنى واحد تقريباً هو "رفض الإملاءات" والتهديدات.
مبدئياً، ينبغي الإشارة إلى أن التقييمات التي ذهبت إلى استشراف القطيعة والمواجهة بين الطرفين فيها مبالغة كبيرة ولا تعكس واقع العلاقات في الفترة الأخيرة ولا الأسس التي تقوم عليها.
ما زالت أنقرة غير قادرة على (ولا راغبة في) الانفكاك تماماً عن حلفائها الغربيين والاتجاه شرقاً بالمعنى الدقيق للكلمة، تأثراً باحتياجاتها العسكرية والأمنية والاقتصادية - وغيرها - معهم.
صحيح أن الأزمات بين الطرفين عديدة ومركبة ومتفاقمة، حيث تطالب أنقرة واشنطن بتسليم كولن ووقف دعم الفصائل الكردية المسلحة في سوريا في حين تطالبها الأخيرة بوقف مسار التقارب والتعاون - لا سيما عسكرياً - مع موسكو، إلى جانب ملفات خلافية أخرى، إلا أن ذلك لا يعني بحال أن الطرفين على شفا مواجهة أو على أبواب قطيعة.
فالمصالح المشتركة بين البلدين أكبر بكثير من أن يتمكن أي منهما من تجاوزها بسهولة. ذلك أنه إضافة للعلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما، فالعلاقات السياسية والأمنية والعسكرية قائمة وراسخة ومتنامية منذ عشرات السنين، وبني عليها مصالح ومؤسسات وأدوار وتأثيرات ومسارات لا يمكن النكوص عنها بجرة قلم.
ما زالت تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقاعدته المتقدمة والبلد الفاصل/العازل لأوروبا عن الشرق الأوسط الملتهب بالأزمات، ولا يمكن تخيل استراتيجية أمريكية أو غربية أو أطلسية في سوريا أو المنطقة عموماً أو حتى بخصوص ملف اللجوء والهجرة دون تعاون وثيق من أنقرة.
في المقابل، ما زالت أنقرة غير قادرة على (ولا راغبة في) الانفكاك تماماً عن حلفائها الغربيين والاتجاه شرقاً بالمعنى الدقيق للكلمة، تأثراً باحتياجاتها العسكرية والأمنية والاقتصادية - وغيرها - معهم.
ذلك أن التوجه التركي نحو روسيا والصين وإيران يعبر عن رغبة في التوازن والاستقلالية النسبية من خلال تنويع العلاقات وتعديدها بما يقلل من إمكانية الاحتكار والضغط عليها أكثر مما يعبر عن تحول كامل لبوصلة سياستها الخارجية.
وهذا ما يفسر رغبة أنقرة وقدرتها على بلورة تفاهمات وتوافقات مع أطراف متناقضة إلى حد كبير مثل روسيا والولايات المتحدة وإيران والسعودية وغيرهم، ما يضفي على سياستها الخارجية شيئاً من المرونة والدينامية.
صحيح أن هذا اللعب على المساحات الرمادية والخلافات بين مختلف الفرقاء أمر بالغ الصعوبة وتكتنفه بعض المخاطر وقد لا يظل ممكناً و/أو آمناً على المدى البعيد، على الأقل في ظل احتمال توافق تلك الأطراف ثنائياً أو تواجهها أحياناً، إلا أنها تبدو حتى الآن سياسة تركية معتمدة بالتوازي مع تعظيم القدرات الذاتية والبحث عن شراكات.
بالعودة إلى قضية القس الأمريكي، يمكن القول إنها ذريعة أكثر منها سبباً للتصعيد الأمريكي الأخير، خصوصاً وأنه أتى بعد خطوة إيجابية نسبياً من أنقرة وفق تعبير وزير الخارجية الأمريكي، ما يعني أن الأسباب الحقيقية مختلفة عن تلك المعلنة.
أنقرة تبدو مصرة على السير في طريق التوازن - قدر الإمكان - الذي رسمته لنفسها والذي أفادها حتى الآن كما أسلفنا، ولا تريد العودة للاحتكار الغربي لبوصلة سياستها الخارجية، كما أنها تدرك أيضاً خطورة التقارب الشديد مع موسكو
ويبدو أن واشنطن لا تريد الاكتفاء بمشاهدة استمرار التقارب بين أنقرة وموسكو، وترغب بموقف تركي أكثر تعاوناً معها في ملف العقوبات على طهران، الأمر الذي رفضته أنقرة بدعوى أنه قرار أمريكي - لا أممي - ويضر بمصالحها. فإلى أين تسير الأمور؟
التزام الرئيس التركي بالصمت حتى كتابة هذه السطور إزاء التصريحات الأمريكية، وعدم تكرار ترمب تغريدات تصب في ذات السياق، وتواصل وزيرَيْ خارجية البلدين أكثر من مرة هاتفياً، تفاصيل توحي بأن باب التفاوض لم يغلق تماماً بين الطرفين، وإن كان بات أصعب بطبيعة الحال.
صحيفة "ديلي صباح" التركية الناطقة بالانكليزية تحدثت عن مفاوضات استمرت شهوراً بين أنقرة وواشنطن لمقايضة برونسون بالنائب السابق لبنك خلق التركي "محمد أتيللا" وعدم ملاحقة أي مسؤولين أتراك آخرين، وأنها وصلت لمراحل متقدمة بدليل نقل برونسون للحبس المنزلي.
هذه السردية، التي تبدو منطقية ومقنعة إلى حد بعيد، تدعم رؤية أنقرة التي عزت التصريحات الأمريكية المتضاربة إلى خلافات بين بعض المسؤولين خصوصاً بومبيو وبنس، رغم أن السياق يحتمل أيضاً معنى تبادل الأدوار لإحراج تركيا والضغط عليها بطبيعة الحال.
في كل الأحوال، فباب التفاوض ما زال مفتوحاً كما سبق ذكره، وهو مسار يفيد الطرفين ويخدم مصالحهما رغم أنه لن يكون من المنطقي انتظار حلحلة الأمر بالسرعة المتوقعة والمتفق عليها وفق الاتفاق السابق.
لكن أصل الملف يبقى على حاله: إفراج متبادل وفق خريطة طريق متفق عليها تنهي التوتر وتصب في صالح مسار التقارب والتفاهمات الذي بدأ بين البلدين مؤخراً، والذي يعوّل عليه الطرفان لأسباب مختلفة تخص كل طرف منهما على حدة.
بيد أن تركيا قد تطلب - منطقياً - تعديلاً في تزامن الخطوات وترتيبها، بحيث تكون الخطوة الأولى أمريكية لئلا تظهر وكأنها خضعت لإملاءات واشنطن وضغوطها.
لكن كل ذلك، في النهاية، لا يعني عودة العلاقات بين الجانبين لما كانت عليه خلال الحرب الباردة ولا بعدها، الأمر الذي بقي في طيات الماضي.
فأنقرة تبدو مصرة على السير في طريق التوازن - قدر الإمكان - الذي رسمته لنفسها والذي أفادها حتى الآن كما أسلفنا، ولا تريد العودة للاحتكار الغربي لبوصلة سياستها الخارجية، كما أنها تدرك أيضاً خطورة التقارب الشديد مع موسكو، ما يرشح سياستها الخارجية للبقاء ضمن استراتيجيتها الحالية، مع نقلات تكتيكية تناسب كل ملف على حدة وفق الظروف والمعطيات المتوفرة له في حينه.