ربما كان من سوء الموافقات أن ارتبطت ولاية الدكتور سعد الدين العثماني في أمانة حزب
العدالة والتنمية؛ بإجراء
حوار داخلي لتصحيح تموقع الحزب وخطه وتحديد بوصلته السياسية في
المغرب. فعقب انتخابات 2007، التي حقق فيها حزب العدالة والتنمية تقدما بطيئا؛ وُسم بكونه "انتصارا بطعم الهزيمة". طالب برلمان الحزب عقب تقييم أداء الحزب في هذه التشريعيات، بإجراء حوار داخلي، يعيد صياغة هوية الحزب وخطه وتموقعه السياسي، فأثمر الحوار بلورة "أطروحة النضال الديمقراطي"، وتغيير قيادة الحزب وصعود عبد الإله
بنكيران أمينا عاما له، وذلك في المؤتمر السادس سنة 2008. ومباشرة بعد انتخاب الدكتور سعد الدين العثماني أمينا عاما للحزب في كانون الأول/ ديسمبر 2017، في مؤتمر عرف تباينا كبيرا بين مكونين في الحزب، أعيدت الكرّة، وتمت المطالبة بفتح حوار داخلي لتقييم مسار تشكيل الحكومة، والخط السياسي الذي تبنته القيادة الجديدة عقب إعفاء بنكيران من مسؤوليته كرئيس حكومة معين.
حوار تباطأت عجلته كثيرا بسبب النقاش حول تركيبة اللجنة التي ستديره، وبسبب الجدل حول الأسبقيات. الحوار أولا ثم انتخاب هياكل الحزب الجديدة جهويا وإقليميا، أم العكس. ثم ما لبثت الأمانة العامة للحزب، أن أقدمت على قرار شبه متوازن بتشكيل لجنة ضمن فعاليات المكونين المتباينين داخل الحزب، لتنطلق فعاليات هذا الحوار بأول جولة عقدت بمنتجع ضاية الرومي في الخميسات نهاية شهر حزيران/ يوينو الماضي، خصصت لمناقشة السياق الدولي والإقليمي وأثرهما على المسار الديمقراطي في المغرب وعلى
الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، ومسار الحزب في الفترة المشمولة بالتقييم، أي من 2011 إلى 2018، ثم مناقشة النسق السياسي المغربي بين الثوابت والمتغيرات.
أولى التحديات التي واجهها هذا الحوار الداخلي غياب شخصية الأمين العام السابق للحزب، الذي برر موقفه بكون كلامه في هذه المرحلة صعب، وأن قيادة الحزب لا تتحملها سياسيا، وسبق لها أن هددت بالاستقالة في حالة استمر بنكيران في الكلام، وذلك عقب تصريحاته في مؤتمر الشبيبة، إذ صرح لحسن الداودي، بأن وزراء الحزب سيحزمون حقائبهم لو استمر بنكيران في الكلام.
ثاني هذه التحديات، تمحور حول توصيات ومخرجات الجولة الأولى التي تعد مدخلا تأسيسيا لما بعدها من الجولات الخمس. إذ بدت جولة الحوار أشبه ما تكون بتمرين نفسي وبيداغوجي على الاستماع، أكثر مما كانت حوارا بالمعنى الذي يفضي إلى قواسم مشتركة، ولو في حدها الأدنى. ولعل هذا بالتحديد ما جعل قيادة الحزب في الجولة المذكورة تختار تأجيل قضية توصيات الجولة إلى مراحل قادمة غير معلومة، بحكم الاختلاف حول آلية صياغتها ورفعها والنظر فيها، فضلا عن الجهة التي تملك صلاحية الحسم في توجيه الخلاصات ذات الارتباط بالخط السياسي.
لكن التحدي الأكبر الذي واجه الحوار، وهو الذي ينتظر أن يكون مؤثرا على مجرياته القادمة، هو سياسة النشر والتغطية الإعلامية التي واكبت عروض وتعقيبات المتداخلين. فعلى الرغم من إنشاء بوابة إلكترونية خاصة بالحوار الداخلي، وعلى الرغم من اتجاه الخط التحريري في البوابة وموقع الحزب لنشر مداخلات العارضين كاملة، وهو ما لقي استحسانا من قبل جميع مكونات الحزب، إلا أن هذه السياسة سرعان ما ارتبكت، بسبب عدم وجود ضابط يؤطرها في نشر التعقيبات، وذلك بسبب أن بعض أصحابها يحملون الصفة الوزارية، وبسبب نشر موقع الحزب مقطع فيديو مجتزأ لتعقيب أحد قيادات الحزب حول الملكية في المغرب؛ يسم وضعها وعلاقته بمسار التنمية، أخرج من سياقه، وتم توظيفه إعلاميا بشكل مكثف للوقيعة بين هذا القيادي والمؤسسة الملكية، الأمر الذي دفع هذا القيادي إلى رفع طلب تحقيق في نشر المقطع إلى الأمانة العامة للحزب، وترتيب الجزاء القانوني، مع الإعلان عن الانسحاب من جولات الحوار ريثما تظهر نتائج التحقيق، وهو ما استجابت له قيادة الحزب، وشكلت على عجل، قبل انطلاق الجولة الثانية للحوار، لجنة تحقيق برئاسة الأمين العام وعضوية رئيسي الفريق بمجلس النواب ومجلس المستشارين وأحد فعاليات الحزب القانونية، للنظر في الطلب.
الملفت للانتباه، أن بعض وسائل الإعلام نقلت قبل نشر المقطع المجتزأ من تعقيب عبد العالي حامي الدين؛ جزءا من مضمون تعقيب الرميد على أحد المتدخلين في الندوة حول الملكية، أكد فيه أن المغرب لا يعيش حالة ديمقراطية ولا حالة استبداد، وأنه يعيش انتقالا ديمقراطيا عسيرا، مشوبا بالغموض والتردد والبطء في الإصلاحات، وأن الملكية البرلمانية هي مآل المسار الديمقراطي في حالة الاكتمال، وهو التصريح الذي يتوقع ألا يتلقى بالقبول من طرف بعض الجهات التي تسعى للوقيعة بين الحزب والملكية، إذ من الممكن توظيفه لضرب العلاقة المفترضة بين الوزير القيادي في العدالة والتنمية والمؤسسة الملكية.
قيادة الحزب، سعيا لاحتواء الموقف، حذفت كل العروض والتعقيبات التي تم نشرها من موقعها ومن بوابة الحوار، وقررت إلحاق ثلاثة قياديين بالأمانة العامة، من بينهم أحد قياديي الحزب المعروفين بشدة اختلافهم مع تدبير القيادة الحالية، كما قررت تعيين مسؤول جديد على قسم الإعلام والنشر بالحزب؛ بعد الاستقالة غير المعلنة لنائب الأمين العام من هذه المسؤولية.
عمليا، بسبب غياب مخرجات الجولة الأولى للحوار الداخلي، وبسبب تداعيات ارتباك سياسة النشر والتغطية الإعلامية، التي نتج عنها رهن جولة الحوار الثانية بنتائج التحقيق، يصعب التنبؤ بالمآل، حتى لو نجحت القيادة وبشكل سريع في إخراج نتائج التحقيق، واتخاذ ما يلزم ضد الجهة التي أساءت إلى القيادي في الحزب عبد العالي حامي الدين؛ إذ الظاهر أن التحقيق في طريقة إخراج الجزء من المقتطع الفيديو، لن يتحرى فقط فرضية الخطأ التقني، أو الخطأ العفوي، وإنما من الممكن أيضا أن يضع بين يديه فرضية العمل المتعمد من الداخل بقصد الوقيعة السياسية أو الانتقام السياسي.
وعلى العموم، فسيناريوهات الحوار الداخلي لا تزال مفتوحة، بغض النظر عن الأفق السياسي الذي يمكن أن تبلغه. فمن الممكن أن تستأنف الجولة الثانية في وقتها هذا الشهر، ظهرت نتائج التحقيق أم لم تظهر، وفي حالة الإصرار على التوقيت دون ظهور نتائج التحقيق، فإن علامات استفهام كثيرة ستبقى معلقة على مستقبله، وإلا فالراجح والأنسب للتقدير تأجيل الجولة الثانية للحوار، ريثما يتم تهدئة الداخل، والانتهاء بشكل كامل من التداعيات السلبية لسياسة النشر المرتبكة التي واكبت فعاليات الحوار، والدخول للحوار بنفس مختلف، غير مشحون بتداعيات الجولة الأولى.
[email protected]