أخيرا، أصبحت مرشحة حركة النهضة سعاد عبد الرحيم "شيخة" لمدينة تونس ورئيسة لبلديتها. ويعتبر هذا الحدث من الناحية الرمزية هاما؛ نظرا لاحتكار الرجال هذا المنصب طيلة السنوات والعقود الماضية. لكن الأمر لا يقف عند هذا البعد، إذ عملت الأحزاب وجزء هام من المستقلين إلى جانب الحركة النسوية على حجب أصواتهم من أجل إفشال المرأة؛ بحجة كونها عضوة في حركة النهضة وأنها لا تقر بالمساواة المطلقة بين الجنسين، وقيل أيضا إنها بحكم كونها أنثى لا تستطيع أن تشارك من داخل جامع الزيتونة في المناسبات الدينية الكبرى!! رغم هذا الحشد، فقد تمكنت هذه السيدة غير المحجبة من الفوز، رغم الجهود التي بذلت من أجل قطع الطريق أمامها. أمام هذا المشهد الغريب، اعتبر الغنوشي فوز مرشحة حركته بهذا المنصب "امتحانا للحداثيين لمعرفة عمق حداثتهم، خاصة بعد ما سمعناه من تعليقات قبل توليها المنصب، وتساؤلات حول كيف ستقود الناس في ليلة القدر في شهر رمضان". وفي ذلك إشارة إلى حزب نداء تونس الذي راهن كثيرا على هذا المنصب ليغطي على تراجعه في الانتخابات البلدية الأخيرة، وجعله يؤكد من جديد أن تحالفه مع حركة النهضة قد أصبح جزء من الماضي.
ستترأس حركة النهضة أكثر من مئة بلدية، وبذلك تكون الحزب الأكثر تمثيلية في تونس، والأكثر قدرة على التعبئة. إلا أن ذلك لن يحجب التراجع المسجل في قاعدتها الانتخابية، فالجمهور المناصر للحركة قد شهد تراجعا ملحوظا من حيث العدد والمواقع الجغرافية.
يمكن لهذا الفوز الذي حققته الحركة أن يمنحها فرصة هامة حتى تستعيد ثقة التونسيين فيها، ويحولها إلى ركيزة أساسية لدعم الديمقراطية، كما يمكن في الآن نفسه أن يتحول هذا الانتصار إلى كارثة سياسية
مع ذلك، يمكن لهذا
الفوز الذي حققته الحركة أن يمنحها فرصة هامة حتى تستعيد ثقة التونسيين فيها، ويحولها إلى ركيزة أساسية لدعم الديمقراطية، كما يمكن في الآن نفسه أن يتحول هذا الانتصار إلى كارثة سياسية في حال فشل ممثليها في تحقيق الوعود التي تقدموا بها إلى الناخبين.
البلديات سيف ذو حدين، وهو ما يستوجب التعامل بحذر مع هذه النتائج في انتظار ضبط التحديات، ووضع البرامج، والشروع في الإنجاز. فالظفر بهذا الحجم الكبير من البلديات يعتبر في حد ذاته إنجازا حزبيا هاما؛ مقارنة بالحصيلة المتواضة التي خرج بها الحزب المنتصر في تشريعيات 2014، وهو نداء تونس، إلا أن هذا المكسب يمكن أن يتحول إلى ورطة سياسية من الحجم الثقيل في حال وجدت الحركة نفسها عاجزة عن إخراج البلديات من العجز المالي الذي تواجهه حاليا، ولم تتمكن من الانتقال بحياة سكان الأحياء إلى ما هو أفضل.
لا شك في أن المثال التركي يشكل حافزا قويا لأنصار النهضة. فأردوغان جعل من البلديات الطريق الأفضل للوصول إلى السلطة، وتجربة مهمة للتدرب على إدارة شؤون الناس. وقد نجح حزب العدالة والتنمية في هذا المجال وحقق نتائج مذهلة. إذ تكفي زيارة مدينة إسطنبول والتجول في شوارعها وأحيائها، والاطلاع على ما وفرته البلديات هناك من خدمات، وكيف حولت المدينة إلى لوحة جميلة، حتى يدرك الزائر أن الانتصار الذي حققه هذا الحزب خلال الانتخابات الأخيرة لم يأت صدفة، ولم يتحقق فقط بسبب بلاغة أردوغان وقدراته على التعبئة، وإنما حصل ذلك نتيجة شعور شرائح واسعة من الفقراء ومن الطبقتين الوسطى والثرية؛ بأن هذا الحزب أقدر من المعارضة على الوفاء بالحد الأدنى من وعوده، وبالتالي بإمكانه المحافظة على قدر من توازنات البلد رغم ارتفاع الأسعار، وتفاقم أزمة الحريات.
رغم أن نسبة النمو التي تحققت في عهد الترويكا تبدو وكأنها أفضل من نتائج الحكومات التي تعاقبت فيما بعد، إلا أن انطباع الرأي العام حول قدرات الحركة في إدارة الشأن العام لا يزال سلبيا
لم تكن حصيلة مشاركة حركة النهضة في الحكم مغرية للتونسيين، ورغم أن نسبة النمو التي تحققت في عهد الترويكا تبدو وكأنها أفضل من نتائج الحكومات التي تعاقبت فيما بعد، إلا أن انطباع الرأي العام حول قدرات الحركة في إدارة الشأن العام لا يزال سلبيا. وهذا من شأنه أن يؤثر على نتائج الانتخابات البرلمانية القادمة. الفرصة الوحيدة التي يمكن أن تعزز من رصيد الحركة، وتجعلها في وضع شعبي أفضل، هي فرصة الحكم المحلي الذي يؤهلها من جديد لكسب ثقة جزء أوسع من الرأي العام الذي ينتظر منذ الثورة أن تتحسن أوضاعه، وأن تستعيد أحياؤه ومدنه نظافتها والحد الأدنى من رونقها، وأن يتخلص التونسيون نهائيا من الفوضى المعمارية، وتتحسن الطرق والمسالك الداخلية، وأن يتم إنقاذ البيئة من مختلف المخاطر التي تهددها، وأن يجد الأطفال والنساء وكبار السن الفضاءات الجميلة التي يقضون فيها أوقاتهم، وأن يتم إنقاذ القطاع الصحي وإخراجه من المأزق الذي تردى فيه.
هل سينجح ممثلو النهضة في تصحيح المسار، ويبذلون قصارى جهودهم في سبيل ترسيخ الحكم المحلي وإقامة ديمقراطية تشاركية حقيقية؟
يطالب التونسيون اليوم بتحسين الخدمات في ظرف اقتصادي ومالي صعب. فهل سينجح ممثلو النهضة في تصحيح المسار، ويبذلون قصارى جهودهم في سبيل ترسيخ الحكم المحلي وإقامة ديمقراطية تشاركية حقيقية؟ أم أنها ستبقى حبيسة حسابات الأطراف المتحكمة في السلطة فتضيع بذلك هذه الفرصة؟ هذا هو تحدي المرحلة القادمة.