هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ناقشنا في الأسابيع الماضية حلقات متتالية من القراءات التقييمية لمسيرة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقد بدا واضحاً من خلالها أنه يعاني من إشكاليات بنيوية، ومخاطر خارجية، لا يبدو أنه سيستطيع التخلص منها في المدى المنظور والمتوسط على الأقل، في ضوء تزايد التهديدات المحدقة بالدولة، التي تملك جيشاً هو "الأكبر" في منطقة الشرق الأوسط.
هذه التهديدات قد تجعل من المحتم على هذا الجيش خوض المزيد من المعارك والمواجهات العسكرية مع أعداء الداخل؛ ممثلة بالمقاومة الفلسطينية، وخصوم الخارج؛ ممثلين بحزب الله سوريا وإيران وتنظيمات الجهاد العالمي، بالتالي عدم تفرغه لإصلاح الأعطاب والعيوب والثغرات التي تهدد بنيته العسكرية، وهيبته المفقودة.
أكثر من ذلك، ووفق كل المعايير، العسكرية منها والاستراتيجية والأمنية، انتهت العديد من المواجهات التي خاضها الجيش الإسرائيلي ضدّ أعداء الداخل والخارج، بالقلق والإحباط من أدائه قبل الحرب، وفي أثنائها، ووفق أقل القراءات حدَّة لم تكن "مرْضية"؛ مما أدى لتشكيل عدد من اللجان الرسمية والبرلمانية والبحثية لمعرفة أين الخلل، وكيف حدثت الإخفاقات، ولِمَ حصل ما حصل أساسا؟
السطور التالية ستقدم سرداً بأهم ما يواجهه الجيش، والمؤسسة العسكرية عموماً، من مشاكل وعقبات، إدارية وميدانية في الوقت ذاته، التي أثرت بدورها -بجانب أمور أخرى- في الإدارة العسكرية الفاشلة له، ومن الممكن وضع أبرز نقاط الإخفاق:
1-فشل الاستخبارات العسكرية: شكل الإخفاق الأكبر الذي وقع به الجيش، الذي بات يخوض حرب عصابات مع قوى المقاومة، بعد سنوات عديدة من التسلح والتخفي؛ بحيث استفاق بعد سبات ليجدها أكثر تنظيما، ومقاتلوها أكثر تدريباً عما كانوا عليه في جولات القتال السابقة، مما أسفر عن تغير الوضع مع المقاومين في ساحة المعركة، حيث نجحوا في مباغتة الجيش مرة بعد أخرى، ما أشار لوجود خلل استخباري ذريع.
هذه السلسلة من الإخفاقات الأمنية والاستخبارية أسهمت في بروز شروخ أولية في الإسناد الذي منحته القيادة السياسية العليا للجيش منذ أمد بعيد، حيث عبرت محافل سياسية ووزراء في الحكومة في محادثات مغلقة عن قصور الاستخبارات في جمع المعلومات عن الأعداء المتربصين، والاستعدادات المكثفة التي أعدوها للمواجهة مع "إسرائيل"، ولذلك فإن المشكلة الحقيقية لأجهزة الاستخبارات التابعة للجيش تعود إلى عدم وجود "أب" لجمع المعلومات الأمنية.
2-الإخفاق الميداني للجيش: وهو ما تأكد في الكثير من الأحاديث التي أدلى بها الضباط والجنود حول الإخفاقات التي تكبدتها قواتهم، لأن أداء الجيش لم يفلح في الإعداد الأفضل لسلاح المشاة، ووحدات النظامي والاحتياط، ولم ينجح في منع تآكل السرايا والفصائل المهنية، كالراجمات، والدورية، والهندسة.
بجانب العرائض التي ترسلها بين الحين والآخر مجموعات من المقاتلين لقادة الجيش ورؤساء الحكومة ووزراء الدفاع، احتجاجاً على الأداء الفاشل لقياداتهم العسكرية في مختلف المواجهات.
3-تبدد قوة الردع الإسرائيلية: التي أصيبت في مقتل من خلال عدة شواهد عاشها الجيش خلال السنوات الأخيرة، حيث تبددت هذه القوة تحت وطأة ضربات حماس وحزب الله، تحديداً، وأثبتت المعارك مع مقاتيلهما إمكانية تحقيق تكافؤ في التدريب النوعي، إذا ما تحولت العقيدة القتالية من اعتماد الكمية إلى النوعية، وجاءت صواريخ الكاتيوشا والقسام وغراد والهاون لتبدد الحلم نهائياً بأن تحارب "إسرائيل" وراء الحدود، وتبقى في مأمن داخلي مطمئن.
4-تراجع سمعة الجيش في أوساط الإسرائيليين: بسبب الضعف الملحوظ والمتزايد في الروح المعنوية التي سكنتهم، بل إن تدهور هيبة الجيش تهاوت وتجلت حين بدا قادته وبصورة "مخجلة" في نظر الإسرائيليين "يعدون على أصابعهم العشر" قبل اختراق الحدود مع قطاع غزة، وضرب مواقع المقاومة فيه، خوفاً من أطنان المتفجرات، التي أثبتت أنها قادرة على صبّها فوق رؤوسهم يومياً، على الرغم من عنفوان "المظلة" الجوية الضاربة.
5-ارتفاع الزيادات المتلاحقة في موازنات الجيش: حيث يظهر ذلك بين عام وآخر، للتغلب على النواقص التي خلّفها تقليص موازنات الجيش في الأعوام الأخيرة، وما واكبه من اهتمام بالدعم اللوجستي، وإمداد الوحدات والفرق العسكرية بالمعدات اللازمة، وتكبير المواقع العسكرية، سواء القوة البشرية أم قوة التسلح، وإقامة المزيد من الألوية، وجمع كميات كبيرة من الأسلحة.
وفي الوقت الذي حرص فيه الجيش على جمع كل الإمكانيات التكنولوجية التي لا تستخدم في غالبيتها، وتحصيل كل الوسائل القتالية التي سرعان ما تصبح قديمة؛ مما ولد في النهاية شعوراً خطيراً في أوساط القادة والضباط الميدانيين بعدم الثقة، وبالتالي ظهور أمراض عديدة، أبرزها التراجع الملموس في الروح المعنوية!
ورغم هذا الإنفاق العسكري الطائل، يمكن الاستنتاج أنه لم يرافقه تغيير في الذهنية الاستراتيجية، خاصة في جهاز اتخاذ القرارات، بحيث أن السيناريو الذي شكل كابوسا مستمرا للجيش، ويتمثل بهجوم عربي كاسح، وبقوات تقليدية كبيرة على حدود الدولة لم يتحقق، وجاءت مقاومتا حماس في الداخل، وحزب الله في الخارج، لتأتي بكابوس من نوع جديد لم تتنبه له ذهنية جنرالات الجيش بصورة مسبقة!
أخيرا.. هذه السطور في خاتمتها لا تقول بأن الجيش الإسرائيلي لم يعد بمقدوره خوض حروب، وتحقيق انتصارات كالتي سجلها خلال حروبه الأولى 1948، 1956، 1967، بل إن قواته العسكرية، وإمكانياته اللوجستية، وترسانته التسليحية، باتت أقوى بكثير من دول المنطقة مجتمعة، ومع ذلك، فإن ما "تناسب عكسيا" مع هذا التقدم العسكري ذلك التراجع في الإرادة والعزيمة التي تحرك كل هذه القوات والجنود، الأمر الذي شهد به عدد من الجبهات الحربية في فلسطين وخارجها.