وضعت "حرب"
الانتخابات أوزارها في
تونس.. فاز من فاز من
الأحزاب وخسر من خسر.. لكن الأهم من كل ذلك أن تونس عززت من ديمقراطيتها الناشئة، وفازت في تنظيم أول انتخابات محلية، منذ ثورتها المجيدة في 2011، وبات التونسيون بموجب هذه الانتخابات قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، من دون هيمنة المركز.
تقول الأرقام شبه النهائية، التي أصدرتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، إن حركة
النهضة فازت بالمرتبة الأولى وطنيا في هذه الانتخابات، بحصولها على 31.5 في المئة من المقاعد، متقدمة على غريمها وشريكها في الحكم، حزب نداء تونس، بعشر نقاط كاملة، إذ حصل النداء على 21.51 في المئة.
ويأتي حزب التيار الديمقراطي ثالثا، ولكن متخلفا بمسافة كبيرة عن الحزب الأول والثاني، متحصلا 3.41 في المئة فقط من المقاعد.
وأما على صعيد نسب الأصوات فقد فازت النهضة بـ28.64 في المئة من الأصوات، وحاز حزب النداء على 20.85 في المئة من الأصوات، في حين حصلت أكثر من 850 قائمة مستقلة، لا تربط بينها أي روابط، على نحو 32 في المئة من الأصوات، وقسمت باقي الأصوات، وتبلغ نسبتها نحو 18 في المئة على عدد من الأحزاب الصغيرة والائتلافات الحزبية.
قراءة سريعة في النتائج
- فاجأت حركة النهضة نفسها وجمهورها بهذا الفوز الكبير. فالحركة كانت الثانية في انتخابات 2014، وقبلت أن تشارك حزب النداء في الحكومة مشاركة شبه صورية. إذ لم تنل، وهي ثاني حزب في البلاد، سوى وزارتين وكتابتي دولة، ما جعل قواعدها تغضب من ذلك. لكن النهضة التي رفعت خطاب المصلحة الوطنية قبل المصلحة الحزبية طيلة الأعوام الأربعة الماضية وفي حملتها الانتخابية الأخيرة، حصدت، فضلا عن أصوات قاعدتها الانتخابية المستقرة نسبيا، أصواتا جديدة راهنت على الحركة باعتبارها أحد ركائز استقرار تونس.
- في المقابل، فاجأ حزب نداء تونس نفسه وجمهوره والمراقبين بتراجعه الكبير. فقد كان الحزب الأول في الانتخابات البرلمانية التي وقعت في العام 2014. لكن الحزب شهد صراعات حادة وانقسامات كبيرة أضعفته. إذ بدا للتونسيين حزبا مشتتا غير قادر على القيام بأعباء الحكم، ولا يتوفر على قيادة كاريزمية ما جعله يخسر معظم ناخبيه.
- تراجع اليسار التونسي تراجعا حادا. فالجبهة الشعبية التي تضم نحو 15 حزبا يساريا وقوميا لم تحصل سوى على 3.95 في المئة من الأصوات و3.39 من المقاعد، متراجعة من نحو 8 في المئة من الأصوات و15 نائبا في البرلمان في انتخابات العام 2014. وخسرت الجبهة مواطن كثيرة كانت محسوبة تاريخيا عليها، مثل بلديات في سليانة (شمال غرب تونس) وبلديات في قفصة (جنوب غرب البلاد).
- تراجع حاد جدا لحراك تونس الإرادة، الذي يقوده الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي. فالحراك لم يحصل سوى 1.33 في المئة من الأصوات و1.32 في المئة من المقاعد. وكان الرئيس السابق المرزوقي قد حصل في انتخابات العام 2014 الرئاسية على نحو 1.2 مليون صوت. ولم يحصل في الانتخابات الأخيرة سوى بضع عشرات من الآلاف، ما يعني أن الحزب يعاني من انهيار شبه تام.
- حزب مشروع تونس الذي يقوده محسن مرزوق، وهو سياسي تونسي مثير للجدل ومحسوب على دولة الإمارات العربية المتحدة، مني بهزيمة منكرة. فمرزوق الذي كان أمينا عاما لحزب نداء تونس؛ انسحب من الحزب قبل سنوات، واعتبر نفسه وحزبه بديلا عن حزب النداء، وعمل طويلا على ذلك، لكنه لم يحصل سوى على 1.44 في المئة من الأصوات وعلى 1.66 في المئة من المقاعد.
- كما أن حزب آفاق تونس، وهو حزب ليبرالي صغير، كان شريكا في الحكومة، وخرج منها قبل أشهر متقمصا خطاب المعارضة، لعله يحصل من ورائه على أصوات إضافية، قد مني بهزيمة منكرة هو الآخر. إذ حصل على 1.06 في المئة من الأصوات وعلى 1.62 في المئة من المقاعد. ويبدو أن هذا الحزب قد خسر تماسكه، إذ استقال منه وزراؤه، قبل أشهر، رافضين الخروج من الحكومة، كما خسر انتخابيا خسارة كبيرة.
- الحزب الدستوري الحر، الذي تقوده عبير موسي، وهي من المطالبين بإعادة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي للسلطة، وتطالب بطرد المنتمين لحركة النهضة من تونس وإعادتهم للسجون، فمني حزبها بهزيمة مروعة، إذ حصل فقد على 1.38 في المئة من الأصوات، وعلى 0.98 في المئة من المقاعد.
- لم تخسر الأحزاب فقط، فقد منيت ائتلافات حزبية بخسارة كبيرة. فالاتحاد المدني، وهو ائتلاف من مجموعة أحزاب لم يحصل سوى 1.77 في المئة من الأصوات، و0.70 في المئة من المقاعد. ويعتبر رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة من بين من راهنوا على هذا الائتلاف الحزبي ليكون مدخله إلى العودة للساحة السياسية. لكن نتائجه المخيبة للآمال قد تقضي على مستقبل جمعة السياسي.
- حزب وحيد خرق قاعدة التراجع، هو حزب التيار الديمقراطي، وهو حزب منشق على الرئيس السابق منصف المرزوقي، حين كان رئيسا لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية. إذ حل التيار الديمقراطي ثالثا بعد النهضة والنداء محصلا 4.19 في المئة من الأصوات و3.39 في المئة من المقاعد.
الآثار السياسية للنتائج الانتخابية
لا يمكن التنبؤ بالغد كيف يكون. لكن الراجح أن نتائج الانتخابات لن تؤثر سلبا على الائتلاف الحكومي وعلى التحالف أو التوافق بين حركة النهضة ونداء تونس. فالنهضة تلح بشدة على منطق التوافق، وتؤكد أن النتائج لن تغير من موقفها من شريكها في الحكم. والحزبان عموما يحتاج أحدهما الآخر في الحكومة. ما قد يتغير بعد الحدث الانتخابي، إذا ما اتجهت البلاد إلى تشكيل حكومة جديدة، أن النهضة قد تطالب مسنودة بفوزها الأخير في الانتخابات البلدية بمقاعد وزارية أكثر.
أما على صعيد التحالفات في البلديات، فإن النتائج تفرض على جميع الأحزاب البحث عن توافقات فيما بينها حتى يمكن الوصول إلى إدارة مستقرة لمعظم البلديات. وباستثناء نحو 50 بلدية فازت فيها النهضة بخمسين في المئة أو أكثر من المقاعد، فإن باقي البلديات، وعددها نحو 300 بلدية، فلا يمكن أن تدار إلا بتفاهمات بين القائمات الحزبية والمستقلة.
القيادي في نداء تونس وسام السعيدي، وهو تاريخيا من قيادات اليسار المتطرف المعادية للإسلاميين، وانضم قبل فترة لحزب النداء، أعلن أن حزبه لن يتحالف مع حركة النهضة في البلديات. وقال إن الحزب سيتفاوض مع مختلف القوائم، غير قوائم النهضة لتشكيل إدارات بلدية.
ولا يعرف أحد إلى أي مدى يعتبر خطاب السعيدي ملزما لحزبه، وإن كان الراجح أنه خطاب لامتصاص أثر الهزيمة لا غير. أما إذا ما تغلبت رؤية السعيدي، داخل حزب النداء، للعلاقة مع حركة النهضة، فإن المفاوضات ستكون عسيرة على الجميع. ويراهن بعض قيادات النداء على أن تتحالف مختلف الأحزاب والقوائم المستقلة معهم ضد النهضة، فيجني النداء، وهو الخاسر انتخابيا، ما لم يحققه بالصندوق.. وهذا احتمال ممكن جدا، فقد حصل شيء منه في المملكة المغربية، إذ فاز حزب العدالة والتنمية الإسلامي من حيث نسب الأصوات وعدد المقاعد، لكنه خسر بلديات كبرى بعد أن تحالفت الأحزاب الأخرى ضده.
تجدد روح الثورة رغم اتساع العزوف
من إيجابيات الانتخابات الأخيرة أنها جددت روح الثورة لدى الكثير من التونسيين. فرغم هزيمة الأحزاب التي تصنف نفسها ثورية، هزيمة منكرة، بسبب عجزها عن التواصل مع الشعب، وبسبب عجزها عن بناء ماكينات انتخابية، وبسبب تشرذمها وانقساماتها السياسية، فإن هزيمة نداء تونس المحسوب على النظام القديم، وعجزه عن تزوير الانتخابات، وهو ما كان يخشاه أغلب الناشطين التونسيين، قد أعاد الثقة إلى جدية المسار الانتخابي، وإلى تمكن تونس من تحصين مسارها ضد التزوير والتلاعب بالانتخابات.
كما أن الانتخابات الأخيرة تعتبر خطوة رئيسية ومركزية في تطبيق دستور الثورة، بتنزيل الفصل السابع منه، والذي ينص على الحكم المحلي المستقل عن المركز، وعلى إشراك المواطنين في تسيير بلدياتهم، وهو ما يعتبر خطوة مهمة في تحقيق مطالب الثورة. ويرجو التونسيون أن ينجح من تم انتخابهم في تجاوز الصراعات الأيديولوجية، وأن يركزوا على ما انتخبوا من أجله من تقديم خدمات أفضل للمواطن، وتحويل الحكم المحلي إلى قاطرة للنمو وخلق الثروة والوظائف، وهو ما تحتاجه ثورة تونس اليوم كحاجة عطشان تائه في صحراء للماء الزلال.