التقيت بالزميل القديم أبي شريك، مصادفة في شوارع العاصمة، بعد غياب دام أربعين سنة، فتعانقنا. كان معه شاب وسيم، صبوح الوجه، ظريف الطول، أبو الميجنا، يلازمه مثل ظله، قدّمه لي معرفاً به، فقال: سائقي. صافحته، فصافحني صامتاً، وكان صمته مريباً. قصدنا مطعماً وأكلنا، وتحيّنت الفرصة حتى نتباوح بعض الذكريات، والأسرار القديمة، وماضيات الدراسة في المرحلة الثانوية، وزمالة العمل لاحقاً، والحكي في السياسة، وتقلبات الأيام.
كنت مستغرباً من السائق الذي يلازمه. كنا قد اقتحمنا العصر الاشتراكي، وتوجب شرائطه أن يصطحب المسؤول سائقه معه، على نقيض المرحلة الليبرالية، فكأنما كان الاشتراكيون يمتثلون بالحديث الشريف: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ. فَمَنْ كَانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مما يأكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِما يَلْبَسُ. ولا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ فإنْ تكلَّفوهُمْ فأعِينُوهُمْ.
قلت لأبي شريك الاشتراكي: كرش، وشيبة، لقد أسرفت في الملذات يا صاحبي.
كنت متضايقاً من وجود السائق.. السائق مخبر مدسوس. رحت أجتهد في أسئلة محايدة، لم أجد بداً من سؤاله أمام سائقه كيف تبوأ منصباً (وصار له سائق قرين): فقال: أنت لا تعرف مواهب صاحبك العلمية إذن.. فسكتُّ.
هنا اعتذر السائق أبو الميجنا، وقصد المرحاض، فإما أنه كان حاقبا أو حقانا أو حابسا، أو أنه أشفق علينا، وأحب أن يمنحنا فرصة للحديث من غير رقيب.
قال أبو شريك: إن الفتى من يقول ها أنا ذا.. ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كان أبي. بدأت القصة عندما اتصل بي أحد فروع المخابرات، فذعرت، لكن المتكلم طمأنني بأن الدعوة هي لشرب فنجان قهوة، فزاد خوفي من جلال الموعد.. آه كم أخشى غدي هذا، ولعبت الفئران والجرذان في عبّي.. كل شيء إلا القهوة السحرية، القهوة تعني المؤبد. من يشرب القهوة يرحل إلى ما وراء الشمس.
وذهبت بعد أن كتبتُ وصيتي. وتبين لي فعلاً أن الأمر قهوة، قالوا لي: إن القيادة الحكيمة تستشرف طلائع تغيرات دولية وموجات ديمقراطية بعد اكتساح الربيع الديمقراطي دول أوروبا الشرقية، وظهور ثورات البرتقال والكرمنتينا، فقررتْ فتح ثغرة في الجدار السميك، والبدء بثورات الليمون، ورفع مقاعد الجبهة، وهي تعادل الكونغرس الأمريكي عندنا، إلى ضعفها عدداً، عطاءً من السيد الرئيس. وأول سؤال خطر لي هو الكيفية التي سيرفعون بها العدد: بالانتخاب، أم بالكلاب؟ والانتخاب طريقة معروفة، أما طريقة الكلاب، فهي بشم رائحة شخصيات سياسة لها نسب، من غير حسب، ودسّها في الكونغرس المحلي. وخطر لي أيضاً أن ثورة البرتقال سيكون اسمها في بلادي؛ التي حبي وفؤادي: ثورة السفرجل.
فقلت: وما المطلوب من مهندس "كرتونيات" مثلي؟
قالوا: ولو.. أنت ستشرّف بقدح شعلة الثورة
الديمقراطية في البلاد.
صار قلبي في نعلي، وعقلي في كفي، فشربت قهوتي، حتى يعتدل مزاجي. قال لي رئيس فرع الأمن، بعد أن ترك مقعده وراء طاولته الفاخرة، الباخرة، وجلس بمواجهتي، ومخر عباب الحديث: مطلوب منك تأسيس لوحة الكترونية من أجل التصويت الديمقراطي، في الكونغرس الجمهوري، ولك مكافأة مجزية.
كنت سأقول له: سهل، ومن عيني اليمنى قبل اليسرى، جلوسي معكم، وشرب قهوتكم مكافأة.. لكني أردت كشف عورات بعض الأسرار، فسألت:
سيدي أنتم عادة تستقدمون مهندسين من كوريا الشمالية، أو الصين الشعبية، أو روسيا الاتحادية، الاتحاد السوفيتي سابقاً، وهي بلاد معروفة بالديمقراطية، وحقوق الدجاج، فلمَ تكلفون واحداً من الرعية مثلي، هذه المرّة؟
هنا يجب الكشف للقارئ، بأن البلاد محكومة بطائفة التي تي، وفي الصف الثاني تأتي أقلية الواوا، التي ينتمي إليها المهندس أبي شريك، أنا أيضاً من أقلية الهاها، وهي أقلية معروفة بالظرف، الذي يضحك الآخرين ويبكيها هي. الواوا معروفة بالإخلاص، ووفاء الكلب، والولاء المطلق.. هم مخصيون نفسياً من غير إخصاء حقيقي. إخصاؤهم تاريخي، أما الإخصاء البيولوجي فمحرم في هذه الأيام.
فقال رئيس الفرع: الأسئلة ممنوعة عندنا، لكني سأجيبك.
الناس تحب أحياناً إظهار أسرارها، الأسرار لها أجنحة، لأن في كشفها متعة وراحة.
تابع صاحب الطاولة الفاخرة والباخرة القول: الدولة مفلسة.
وكان الرجل الثاني في البلاد، قد نهب البنك المركزي، وخرج ولم يعد.
تابع: أجور الملاحدة الكوريين كبيرة، مهندسوهم طلبوا مبلغاً كبيراً، واقترحوا مدة شهرين للمهمة، والانتخابات حان موعدها، وليس عندنا وقت، وسيادة الرئيس يريد أن يهدي شعبه هدية، من أجل أعراس الديمقراطية. فسألت السؤال الثاني: عفواً سيدي، ولكن عدد أعضاء الكونغرس لا يستحق لوحة الكترونية للتصويت، فعددهم سبعة، وسيصير إلى الضعف، ويمكن عدد هذه الأصوات بالعين عدّاً مباشراً، لمَ هذا الهدر؟
فنظر إلي وقال: أنت تريد أن أغضب منك.
ففهمت الجواب، وهو أن القيادة تهوى الديمقراطية الالكترونية، كما يحب الأطفال السكاكر والراحة.
وفعلاً نفذت لهم اللوحة الالكترونية في أسبوع، وهي لوحة قابلة لزيادة أعضاء الكونغرس إلى ألف، ويمكن فيها تزوير الأصوات بنعومة وحلاوة. وكرمتني القيادة برحلة إلى البحر الأسود، فوجدت أعضاء الكونغرس كلهم، السبعة القدامى والسبعة الجدد، هناك، يتبعون دورات في الديمقراطية.
سألت صديقي القديم أبي شريك، سؤالاً أدرك السخرية فيه:
في العادة الناس تتعلم الديمقراطية من أمريكا، فالمشهور إعلامياً، لا على الحقيقة، أنّ أمريكا هي قلعة الديمقراطية، ليس لأن الحزبين الجمهوري والديمقراطي يحكمان أمريكا بالتناوب، ورديات، حزب يقول: حمار، فيقول الثاني: لا، فيل، ثم يحكم حمار له خرطوم، أو فيل له نهيق.
قال أبو شريك: أنت مخطئ يا صديقي. الديمقراطية السوداء على البحر الأسود، أعدل من الديمقراطية الأمريكية بسنين ضوئية، وأمتع، فهم كانوا في كل يوم يبدلون لنا الفراش في الفنادق، نصوّت لناتاشا في الصباح، و نستخدم حق الفيتو لأولغا في المساء، حتى أننا كنا نزمر من وطأة الديمقراطية الشعبية. أما في أمريكا، فالديمقراطية مكلفة جداً، وهي بالعملة الصعبة. المفلس لا يستطيع أن يصوّت في أي سروال بسهولة. الساعة الانتخابية في أمريكا تكلف 100 دولار، لأي عملية ديمقراطية فردية وثيرة.
قال: لكن لا أخفي عنك أنّ للديمقراطية الشعبية مثالب كبيرة، فالديوك الذين كانوا يوفدون للتدرب على الديمقراطية على البحر الأسود، كانوا يتركون دجاجاتهم وحيدات، مع السائقين؛ وهم عادة من أقلية الواوا، أي مع ديوكنا الفحول، أي إنهن كنَّ أرامل وأزوجهن أحياء. وكانت الدجاجات تدرك أضرار الديمقراطية الروسية على أزواجهن المناضلين، فكن ينتقمن من أزواجهن الذين يأبون مصاحبتهن على البحر الأسود.
- ينتقمن، كيف؟
- قال: كنّ ينتقمن منهم، على طريقة إلهام شاهين في فيلم "جنون الحياة"، بأمر السائقين، ليس بتوصيلهن إلى السوبر ماركت، أو حمل الحاجيات والأمتعة، أو توصيل الأولاد إلى المدرسة، وإنما بطلبهم إلى غرف التصويت الوثيرة، ثم يسألنهم: ألست ديمقراطياً؟
فيقول السائق: رهن أمرك سيدتي.
فتقول له: أريد توصيلة.
فيقول وهو مطأطئ الرأس: أمرك يا سيدتي.
فتخلع ثيابها، وهي تشير إلى السرير، وتقول بشفافية ليس لها مثيل: أريدك أن تقود هذه السيارة إلى ذروة الديمقراطية.
فقلت: وبعد؟
قال: تريد أن أغضب منك.
ثم تابع: يبدأ السائق بالجلوس وراء المقود، والقيادة بأقصى سرعة، ويتعالى صوت الميجنا والديمقراطية، حتى يبلغ عنان السماء، ثأراً من أيام الدكتاتورية العجاف، ومن التفاوت الطبقي السابق. قلت لك أقلية الواوا مخلصة وتلبي الأوامر.
هنا عاد السائق الصموت، فسكت أبو شريك عن إكمال الحديث، وقصد المرحاض بعد أن غمزني، فلحقت به، فلا يحلو الحديث عن الديمقراطية، وممارستها عندنا إلا في المراحيض.
دخلنا إلى الغرف السوداء للتصويت، وأطلق صديقي إحدى وعشرين طلقة مدفعية تحيةً للرئيس، وخرجنا لنغسل أيدينا من الحبر الانتخابي.
فتابع على المغسلة: في السياسة لا تدوم التحالفات، فصديق الأمس قد يغدو عدو اليوم. تحول السائقون طبقةً سياسية، كما الترك في العصر العباسي، والمماليك في العصر المملوكي، ووقعت لنا وقعة كوقعة البرامكة، فعزل جميع السائقين، بعد أن نما إلى أذن السلطات أن زوجات المسؤولين المنتدبين إلى البحر الأسود يبالغن في تزوير الأصوات الانتخابية. فأبعدوا قومي، ولكني استثنيت بسيارة وسائق تكريماً، وثواباً للخدمات "الكرتونية" التي قدمتها من أجل ثورات الليمون.
تابع: ظهر جيل جديد لا يدرك تضحياتنا وإنجازاتنا، وأمس جاءني رئيس فرع مخابرات شاب، وهددني تهديداً مباشراً، وأمرني بالسكوت، وتجنب الثرثرة، فكدت أقول له: عيب عليك ترفع صوتك فوق صوت أبيك.. كان ابني، ولكنه لا يعرف أنه ابني.
- حقاً؟
- نعم.. كان ابني.. أنا أعرف لمن كنت أمنح صوتي الانتخابي، أحيانا كان أعضاء الكونغرس يصوتون من البيوت، وكنت أصلح اللوحات المعطلة للزوجات.
رنّ هاتفه، فرفعه وتكلم، ثم نظر إلى الأسفل من خلال النافذة الزجاجية الكبيرة، وقال: جاء ابني.
أشار له بالصعود، فصعد، ووصل شريك، وسلّم علينا، فوجدت به شبها كبيراً بالسائق أبي الميجنا، لا بصديقي القديم، أو أنني توهمت ذلك بدخان القصة التي رواها لي أبو شريك. طلب شاياً، وشربنا، وسكتُّ، وأنا أعجب من شبه شريك بالسائق ومن حسنات الديمقراطية، فما كل ما يعرف أو يدرك يقال. الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون.
افترقنا وأنا أستذكر مشاهد فيلم "جنون الحياة" الديمقراطية، فقلت: إن هذه الحكومات حرمتنا من الديمقراطية، لكنها تفضلت علينا بمشاهد ديمقراطية حقيقية، شفافة، ساخنة، لم يتمتع بها حقاً وفعلاً سوى.. بطلي الفيلم.