الغالبية الساحقة من المبدعين تميل إلى استبدال بعض الأصدقاء، أو أغلبهم في مراحل معينة من الزمن. ويرجع السبب وراء ذلك إلى التطور الذهني الذي يطرأ على الانسان؛ لأن بعض الأصدقاء لا يتمكنون من الاستمرار معك، لأن عقولهم تتوقف في أماكن محددة من عمرهم، لذلك يصبحون عبئاً عليك، فتتركهم أو يتركونك.
تماماً، ما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدول التي في أغلبها تحاول الوصول الى النهضة ولا تدركها، والسبب أن قوانين النهضة تختلف من عصر إلى عصر، فلم تعد أوامر السلطان كافية لإحداث نقلة نوعية تضعك في مصاف الدول الكبرى.
قوانين النهضة في عصرنا الحالي تقوم على قاعدة واحدة فقط، هي استثمار العقول، لذلك عندما صاغت "الدول الغربية" قوانينها الجديدة، فتحت المجال للعقل الانساني بالرحيل إليها من كافة بقاع الأرض، وهكذا تحولت هذه الدول في فترة وجيزة إلى مركز استقطاب للعقول المؤثرة، دون أن تسألهم عن الدين والعرق والقومية التي أتوا منها.
فنجد مثلاً أن "فاروق الباز" يساهم في رحلة "أبولو" ويرسم أول الخرائط الجغرافية للقمر، بينما في بلده مصر، قاموا بتعيينه مجرد أستاذ بمكان معزول؛ لأن مصر في عهد عبد الناصر كانت تعيش أوج الخرافة القومية، وفكرة الثورة والانتصار على الغرب، وبقية تفاصيل أكاذيب المستبدين.
سابقاً كانت الدول تتنافس بينها للحصول على المواد الخام والأسواق والممرات المائية. وأما اليوم، فالدول تتنافس للحصول على المبدعين وجلبهم اليها؛ لأنهم من مكانهم يستطيعون تغيير معادلات الكون، لذلك لم يعد التطور هو أمريكي أو ألماني.
فالتطور اليوم بات يحمل هوية إنسانية، تماماً، عندما يكون مخترع هاتف الأيفون ستيف جوبز هو من أصل سوري، تدرك أن الغرب الذي لا نرى منه في ثقافتنا سوى عيوبه، هو الغرب الذي سبقنا بسنوات ضوئية؛ لأنه قام على معادلة "قليل من القومية"، لذلك لم تعد الحضارة من نتاج شعب محدد بل باتت نتاج العقل الإنساني كله.
في الدول القومية، يمكن أن تحدث نهضة، لكنها تبقى محدودة، والسبب أن الدول القومية تفكر بشكل بوليسي، وكل اهتمامها يذهب للحفاظ على السلطة، لذلك هي قد تبدع في الإنتاج العسكري (مثل كوريا الشمالية)، ولكنها لا تتجاوز ذلك؛ لأن التفكير البوليسي هو جدار في وجه النهضة، لكونه يعمل على عسكرة كل نواحي الدولة، من الإعلام الى الثقافة وحتى الفن. ففي الدولة البوليسية تجد أن كل شيء بوليسي، حتى علم الاجتماع، يتحول من علم إنساني إلى مجرد أيديولوجيا يبث فكرة الدفاع عن السلطة.
التقدم في الشرق سيبقى نسبيا ومحدودا؛ لأن مراكز الأبحاث فيه مصابة بمرض فقدان النمو، والسبب أن المبدعين ملزمون بالتفكير وفق طريقة السياسيين.
وبينما الغرب يتقدم، ويبحث عن مزيد من العقول، يبقى الشرق غارقا في ذكريات الانتصارات التي لم نصنعها نحن؛ لأن الماضي ليس لنا، فلم نكن موجودين فيه، والمستقبل ليس لنا لأننا لم نصل اليه، وأما الحاضر البائس فهو مع الأسف ما نملك.