هذا ما
أكدته في بيان لها وفي تصريحات أهم قادتها... بمعنى آخر، لم تعد حركة
النهضة مستعدة لتحمل الهجمات والاتهامات المتتالية ضدها من قبل جميع خصومها بدون استثناء، بدءا من السياسيين ووصولا إلى
الإعلاميين. فما الجديد في الأمر؟ وما هي القطرة التي أفاضت الكأس؟
قائمة عريضة وطويلة من التهم الموجهة لهذه الحركة التي ظنت بأنها أصبحت استثناء في المنطقة، وكلما استمرت في الحكم؛ اتسعت في المقابل قائمة التهم. تكفي الإشارة فقط إلى عينات من هذه التهم: الارتباط بالخارج (الإخوان المسلمين تحديدا)، دعم الإرهاب، تسفير الشباب
التونسي إلى بؤر التوتر، الإثراء غير المشروع لعدد من كوادرها، ازدواجية الخطاب، التسرب إلى مختلف أجهزة الدولة، توظيف أبنائها على حساب الشباب العاطل عن العمل، وقوفها وراء اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، الحصول على تمويلات مشبوهة، واحتفاظها بتنظيم سري.. إلخ.
في هذه المرة رفعت الحركة صوتها عاليا لتقول "كفى". وقررت أن تقلب الطاولة، وترفع شكاوى إلى القضاء ضد كل من يتهمها بدون دليل. بل إن رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي اعتبر أن تصريح أحد قادة الجبهة الشعبية، بأن "النهضة" ليست حزبا سياسيا، بمثابة الدعوة إلى الحرب الأهلية، وهو التصريح الذي أثار ردود فعل واسعة، واعتبره الكثيرون تهديدا باللجوء إلى العنف ضد الخصوم.
كما هددت الحركة في بيان لها بـ"تتبع الأشخاص والمؤسسات الإعلامية المنخرطة في الحملات التشويهية الممنهجة ضدّها، قضائيا". وهو ما استفز نقابة الصحفيين التي ردت بقوة على ذلك في بيان طالبت فيه "النهضة" بتقديم توضيحات في هذا الشأن، وعبرت عن "رفضها أي ضغوط على الصحفيين أو الهيئات المهنية، من أي طرف كان". وأضافت أنّ "تهديد الصحفيين والتحريض ضدهم وتخويفهم بالملاحقات القضائيّة، لا يصبّ سوى في دائرة الترهيب وتكميم الأفواه والحدّ من هوامش حرية التعبير والصحافة".
كما اتهت النقابة أطرافا عديدة، وعلى رأسها حركة النهضة، بكونها "تمارس تصعيدا في لغة الخطاب السياسي؛ تحاول فيه جر الصحفيين إلى ساحة معركة ليسوا معنيين بها، وتمضي إلى التلويح بالملاحقة القضائية للمخالفين لها في اتجاه خلق مناخ من الاحتقان والاصطفافات".
ولم يقتصر الأمر على نقابة الصحفيين، وإنما انخرطت منظمات دولية في الرد على الحركة، مثل منظمة "مراسلون بلا حدود"، التي اعتبرت بدورها ان تهديدات حركة النهضة بالتتبع القضائي للإعلاميين "يمثل تهديدا خطيرا لحرية الصحافة في تونس".
هكذا وجدت الحركة نفسها "متهمة" بعد أن كانت مظلومة. وليست هذه القصة سوى حلقة من حلقات توتر العلاقة بين الحركة وبين الإعلام. إذ كلما حاولت أن تكسب عموم الصحفيين إلى صفها، جاءت أحداث ما لتجد نفسها محاصرة في زاوية ضيقة، وينقلب الجميع ضدها.
لم تفشل الحركة فقط في كسب ثقة الإعلاميين، وإنما فشلت أيضا في بناء مؤسسات إعلامية تكون ناجحة على الصعيدين الفني والبشري. ولم تتمكن هذه المحاولات التي أقدمت عليها من كسب المصداقية الضرورية التي تجعل منها مصدرا أساسيا للخبر والتحليل. وهو ما جعل الحركة لقمة سائغة ودسمة لبقية وسائل الإعلام.
هناك أسباب عميقة وموروثة جعلت عموم الحركات الإسلامية غير قادرة على أن تكسب معركة الإعلام. وهذه الأسباب متعددة، وفي حاجة إلى أبحاث معمقة للغوص في خلفياتها؛ لأن منها ما له علاقة بالجانب الفكري، إلى جانب الفهم القاصر للإعلام ودوره وخصائصه وتقنياته. وإذ قامت بعض المحاولات الناجحة نسبيا، لكنها سرعان ما توقفت أو انحرفت عن مسارها نتيجة الحرص المبالغ في تطويع الإعلام لخدمة أغراض أيديولوجية أو حزبية محدودة وضعيفة.
لا يوجد ما يمنع النهضة من أن تدافع عن نفسها، وأن تقاضي كل من يتهمها بدون دليل. فمن حق أي فرد أو جماعة أو حزب أن يدافع عن نفسه بالوسائل القانونية، خاصة إذا كانت التهم الموجهة له لا تستند على أدلة موثقة. لهذا يعتبر موقف الحركة من الناحية المبدئية مشروعا لا غبار عليه، غير أنها مطالبة في المقابل بأن تحذر من ملامسة خطوط حمراء عديدة. ومن هذه الخطوط ألا تمارس أي شكل من أشكال الضغط أو التهديد المبطن أو المباشر للصحفيين ومؤسساتهم، حتى لا تنتقل من الدفاع عن نفسها إلى الظهور في مظهر المعادي لحرية الإعلام. وقد كان بإمكان "النهضة" أن تعد ملفا مقنعا، وأن تتقدم إلى القضاء ضد من تراه قد كذب عليها واتهمها باطلا، عوض أن تصدر بيانا شديد اللهجة وقابلا لمختلف التأويلات، بما في ذلك تعميم الأحكام، فتكون بذلك قد خسرت المعركة قبل أن تبدأها.