كتاب عربي 21

تونس.. ثورة والمسار والتحديات

محمد هنيد
1300x600
1300x600

تمثل "ثورة تونس" أو كما يسميها شعبها "ثورة الحرية والكرامة" إعلانا عن بداية نهاية النظام الرسمي العربي في شكله القديم. ثورة تونس حرّكت قاطرة الثورات العربية وأسست لأعظم فعل ثوري في التاريخ الحديث حيث نجحت القواعد الشعبية والجماهيرية غير المنظمة في إسقاط المنظومات الحاكمة. صحيح أن الحركة كلها لم تكتمل بعد لكن جزءا من الحركة قد اكتمل بشكل يسمح بقراءته وتأويله وتبين مساراته فالمسافة الفاصلة بين الانفجار وبين اللحظة الراهنة تكفي لتبين جملة من الفواعل والأدوار القادرة على تقييم المشهد ولو بشكل عام في إطاره العام. 

 

لم يخطر ببال أكثر المراقبين تفاؤلا أن "بن علي" سيهرب من تونس تحت تأثير وضع اجتماعي منفجر. لا أحد كان يتصور أن كرة الثلج التونسية ستطال كل العواصم العربية إن بشكل مباشر أو غير مباشر وأنها ستكون الفاعل الأبرز في مسار الأحداث العربية والدولية إلى اليوم. إن كل ما يحدث اليوم من تفاعلات المشهد العربي من حصار قطر وصولا إلى صفقة القرن وتسليم القدس للصهيونية إنما تمثل ارتدادا مباشرا لموجات الربيع العربي التي دشنها الانفجار التونسي الكبير. 

 

إن القراءة التي تستند إلى مبدأ التراكمات التاريخية كمبدأ فاعل في تحقيق التحول التاريخي وإنجازه ترى أن الثورة التونسية ليست إلا نتيجة طبيعية لتراكمات تاريخية من التهميش الاجتماعي ومن الظلم السياسي ومن القمع الأمني. هذه القراءة لا تؤمن بالصدفة التاريخية بل تري أن عنصر المفاجأة في الثورة التونسية ليس إلا مظهرا من مظاهر عدم إدراكنا لما يعتمل في قاع المشهد والذي انفجر فجأة. أي أن عدم وعينا بالتراكمات حولنا لا يعني أن نلغيها أو ألا نعترف بها.

 

القراءة التراكمية للمشهد التونسي تفترض أن الثورة لا يمكن أن تعود إلى الوراء بل هي سائرة نحو إنجاز أهدافها ونحو تحقيق الدوافع التي خلقتها. بناء عليه فإن انحسار المد الثوري أو تعطله ليس إعلانا عن نهاية الثورة وإنما هو إعلان عن أنها بصدد تجديد آلياتها. 

 

القراءة التراكمية تعتمد على الوعي محركا أساسيا للفعل الثوري فالوعي والإدراك هما شرطا إنجاح المد الثوري إذا ما توفرت الشرارة الاولى لانطلاقتها.  اليوم لا تزال شروط الانفجار الثوري قائمة في ميادين الربيع العربي وخاصة في مصر وهي هناك متسلحة بوعي جديد ناسل عن المجازر والمذابح التي ارتكبتها قوات الثورة المضادة بعد الانقلاب الدامي. 

 

يمكن الإقرار دون مجازفة تحليلية أن الفاعل الأكثر غيابا اليوم عن مسار ثورة تونس هو الفاعل الذي كان الأكثر حضورا إبان اندلاعها ونقصد به جموع المعطلين والمفقرين وجحافل الفقراء والمسحوقين أو ما يصطلح عليه في الخطاب الاعلامي العربي الرسمي "عموم الشعب". يظهر الشعب التونسي اليوم ونقصد به مجموع الطبقة المتوسطة والفقيرة غائبا عن الفعل الاجتماعي والسياسي بعد ان استحوذت النخب السياسية ممثلة في الأحزاب السياسية على المشهد برمته. لكنها تبقى بطبيعة الحال حاضرة على مستوى مراقبة المسار الثوري وترصد عمليات التلاعب بالمكاسب الثورية.  

 

بل إن مدار المنافسة اليوم بين العناصر المتصارعة على المشهد التونسي إنما يتمثل في كيفية الاستحواذ على الوعي الشعبي سواء بالتنفير من الثورة ومن شعاراتها أو بالتذكير بمحاسن الاستبداد من أجل فصل الثورة عن مسارها وضرب العملية الانتخابية المنتظرة.

 

أما المشهد الحزبي التونسي فينقسم إلى الأحزاب محسوبة على الخط الثوري وأخرى محسوبة على النظام القديم وأخرى تراوح بين هذه وتلك خاصة منها الأحزاب الايديولوجية المنتمية إلى المنوالات الأيديولوجية القديمة التي تعود إلى فترة السبعينات. لكن إلى جانب هذه المكونات السياسية توجد الأذرع الأخرى الأكثر خطورة على المشهد التونسي متمثلة في الاتحادات العمالية و منظمات الأعراف أو المنصات الإعلامية الحكومية والخاصة وكذلك مفاصل القرار الادارية والاقتصادية والمالية وهي المرتبطة شديد الارتباط بمجموعات النفوذ والمال التي تعتبر الحاكم الفعلي للبلاد التونسية. 

 

لكن كشفت الأحداث الأخيرة في تونس عن لاعب هام في المشهد التونسي وهو اللاعب الإقليمي ممثلا في دولة الإمارات التي تحولت إلى فاعل رئيس في بث الفوضى وفي التلاعب بالمسار التونسي. وليست دولة الإمارات إلا الجزء الظاهر من المجموعة القوى التي تعمل على إفشال التجربة التونسية حتى لا تتحول نموذجا يحتذي في بقية الدول العربية. 

 

إن السعي إلى ضرب التحالف القائم في أعلى هرم السلطة والمؤسس على تحالف بين الحرس القديم وبين حركة النهضة الإسلامية والسعي إلى تكوين حزام برلماني يتبع لدولة الإمارات من أجل التأثير على قرارات الحكومة لن تكون آخر محاولات إجهاض التجربة التونسية. 

 

ستبقى ثورة تونس تصارع حتى تنجح في عبور أكثر المراحل خطورة في تاريخها لأنها تمثل اليوم التجربة الوحيدة التي نجت من براثن الثورة المضادة ومن مقابضها الدامية. لكنها في نفس الوقت محكومة بسياقها الإقليمي والدولي الذي يشكل عبوره بنجاح حجر الزاوية في نجاح التجربة التونسية. 

2
التعليقات (2)
بشير
الجمعة، 09-02-2018 07:08 م
التراكمات التاريخية ليست جثة هامدة ، إنها على قدر كبير من الحياة ، كما أن محطات هذا التراكم خاضعة لحركة الإنسان ومتغيرات الحياة ، بينها ما يشبه المد والجزر ، لذلك نجد مراكز الفكر والبحث داخل أمريكا على وجه الخصوص وفي حدود الفلسفة المنغلقة التي يمتاز بها الكيان الصهيوني ، وامتاز بها من دون ضجيج منذ أمد بعيد ، مثل هذا المجهود الفكري والبحثي يتموقع أيما تموقع لمسايرة حركة المد والجر في مقاربة كل ما هو تراكم تاريخي . التحدي الذي يحيط بالمشهد التونسي اليوم هو عملية الالتفاف المرقمنة التي تتعاون لأجلها دوائر الاستبداد والاستعمار ، المال هو العنصر الفاعل اليوم داخل تونس ، ونقطة الضعف هو الوضع المعيشي لفئات واسعة من النسيج الاجتماعي ، عدو تونس هو إعلامها المستخدم بالوكالة من طرف الدوائر المتربصة ، الغرض هو قطع الطريق أمام الجهود المخلصة ، دوائر الاستبداد والاستعمار تتخوف من المقاربة التركية ، لذلك فهي تعمل على قطع الطريق ، وإن لزم الأمر فإنها ستستخدم أكثر من أسلوب لنشر الفوضى بغرض إطالة عمر الاستبداد وليس سوى الاستبداد . المطلوب من الدوائر الفكرية الفاعلة تجنب الشعارات وبدلها وجب النزول إلى الأرض ، بمعنى تفعيل عنصري الرضاء والتواضع جنبا إلى جنب رفقة الجماهير ، مثل هذه المهمة ليست بالأمر الهين البسيط ، فهيفي حاجة إلى كثير من الوقود الحضاري اللازم . شكرا والسلام .
محمد
الجمعة، 19-01-2018 11:07 م
" اللاعب الهام " الذي كشفت عنه الأحداث الأخيرة كان حاضرا بقوة خاصة قبيل انتخابات 2014 ، وحضوره يفسر الكثير من الأحداث والسياسات والمسارات التي كتب عنها الأستاذ هنيد سابقا وقرأها قراءات مغايرة لما في هذا المقال لأنه لم يراع ، في المقالات السابقة ، هذا " اللاعب اإقليمي"...ما انتهى إليه الستاذ هنيد في الفقرتين الأخيرتين يمُثّل استنتاجات مهمة لفهم الراهن السياسي التونسي، مع التحية للأستاذ محمد هنيد. ط