تعدّ
إسرائيل معيارا لقياس القسوة والظلم، عربيا وإسلاميا.. هي ميزان، ومسطرة واقعية، وسردية تاريخية أيضا، فقصة موسى مع بني إسرائيل هي الأكثر ورودا في القرآن. وكان الله تعالى قد فضّلهم على العالمين، امتحانا لهم وابتلاء. وكلما زاد الفضل زاد التكليف. وأظن أنهم ما يزالون يقتاتون بالفاضل من ذلك الفضل، وتكرار قصة بني إسرائيل في القرآن، توعية للمسلمين، وإعدادهم للخلافة الكبرى. ويضرب بهم المثل في عداوة المؤمنين، وكفر النعمة والجحود، وقتل الأنبياء، وتحريف كلام الله، واتخاذ الآلهة، والشرك، والفتنة، والفساد، والحسد، ونقض المواثيق والعهود، والاستهزاء بالدين، والربا والسحت، وقسوة القلب، والجبن، وحب الدنيا.
ولذلك يقيس المسلمون، ومنهم السوريون، بمسطرة إسرائيل، فيحصون ضحايا إسرائيل، وضحايا الأسد، فيجدون الكفة مرجوحة، بل إنهم لا يجدون كفة، فقد طاشت كفة الشعب وطارت، وبقيت كفة السيد الرئيس.
أكبر المجازر التي سبحنا في دمها، في المدارس، هي كفر قاسم دير ياسين، أما صبرا وشاتيلا، فكان فيها أدوات طائفية أخرى. وإذا قسنا الخسائر كميا وحسابيا، نجد النظام السوري يقتل يوميا ما قتلته إسرائيل في حروب كاملة.
وجاء في الأخبار المتواترة، أنّ وفودا من درعا في أول الثورة، طالبت الأسد باستخدام الرصاص المطاطي، فتذرع الأسد بأن الخزينة مفلسة، والرصاص المطاطي أغلى من الرصاص المعدني. وجاء في الأخبار أن خادم الحرمين، الملك عبد الله، عرض على الأسد، وكأنه أحد ولاته، مبلغا لإجراء إصلاحات، فاستقلّ الأسد المبلغ، أو أنه استكثر الإصلاحات.. القتل أرخص، وفيه متعة وتطهير وانسجام ومجانسة، وفروع المخابرات كثيرة، وأكثر من الجامعات في سوريا.
كان الأسد سيسقط لولا حزب الله؛ الذي أكد أكثر من مرة أن سلاحه للعدو الإسرائيلي فقط، ثم تدخلت
إيران عبر مستشارين، كما زعمت وادعت، ثم دخلت مباشرة بقوات يقودها قاسم سليماني، وإيران إلى جوار روسيا، تتقاسمان القرار والسيادة على سوريا المحتلة التي تخدم سيدين، وتنام في فراشين: إيراني للمتعة في النهار، وروسيا لإكثار البذار، والاستحمام بعد إكثار البذار في مياه البحر المتوسط الدافئة، في الليل.
وقد انتشرت في الآونة الأخيرة تغريدات لموسى أبو مرزوق، وجمال ريان، وسواهما، تدافع عن إيران، وتمدحها، وتتغزل بها، أو تحاول تفضيلها على إسرائيل. وانتفض عزام التميمي في مقال، فاختار الوقوف إلى جانب حزب الله في حال الاعتداء عليه، وساق حججه. الفلسطيني مرابط، ويقال إنه أقدر على تمييز العدو من الصديق أكثر من غيره، لكنه يعاني من بطش الاحتلال الإسرائيلي، وأسير وجريح ومحاصر، والقاضي غير القضية.
وقد حوصرت حماس، فرفعت الراية لإيران.. ونقل الناشطون تغريدة لقيادي من حماس، سُئل عن إيران، فقال: "نلحق بالسعودية، فتهرب منا، وتلحق بنا إيران، ونهرب منها". وقد حكم الحصار بملاقاتها أخيرا ملاقاة الحبيب الغائب.
السوري يرى غير ذلك، فهو يعاني من الاحتلال الإيراني وبطشه، وقد حطمتْ مساجده، وتحوّل الأمويّ إلى مسجد للّطم. ويشتهي أن يكسر الفخارُ الإسرائيلي الفخارَ الإيراني، بل إني أرى السوري يفضل العدو الإسرائيلي الظاهر على العدو الباطني الفارسي. وكانت إيران قد احتلت أربع عواصم عربية من غير خيل ولا ركاب، هي دمشق، وبغداد، وصنعاء، وبيروت.. فهي دولة محتلة بطريقة أذكى من طريقة إسرائيل. احتلت إيران هذه العواصم بطريقة تصدير الثورة الفائضة، والتشييع، ودعم الحركات المذهبية القريبة من مذهبها، وقد اقتربت من الكعبة. فثاني القبلتين على وشك الوقوع تحت الاحتلال الإيراني، فالحوثيون يهددونها.
عداوة إيران الفارسية، أحدث من عداوة إسرائيل اليهودية، فهي تمتد إلى ألف وثلاثمائة سنة، بينما العداوة اليهودية أبعد زمنا. والعداوة الأحدث أنكى وأشد، والعداوات بين الأقارب - كما تقول العلوم الاجتماعية - أشد. ثم إن عداوة إسرائيل هي عداوة احتلال ومال وشهوة، أما عداوة إيران، فهي عداوة انتقام وحقد وعقائد. وإيران أقرب إلينا جوارا وعقيدة، فهي تؤمن بالله، لكنها تختلف في الأصل الثاني، في النبوة، فمثلا:
هي تحتفل بوفاة النبي أيضا، وهذه مفاجأة! وفي الاحتفالات، كانت تعلق لافتات على السفارة الإيرانية في دمشق، وهي أغنى السفارات في سوريا، وأكثرها نشاطا؛ تقول فيها: الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعزي الإمام علي بن أبي طالب بوفاة ابن عمه النبي محمد.. وهذا يعني أن عليا هو الأصل، وهو الحيّ، وأن الرسول هو ابن العم، وهو الميت.. وهذا يعني أن إيران مهتمة بتغيير العقيدة، بطريقة دس السم في العسل. أما إسرائيل، فهي لا تزال دولة الذي يهمه الأرض والمال والشهوات.
لا مشاحة في الاختلاف العقائدي والمذهبي، فهذا من طبائع الاختلاف.. المشاحة هي في الاعتداء والعدوان وإثارة الضغائن. وأظن أننا يمكن أن نتعلم من إسرائيل أشياء كثيرة مثل حسن الإدارة، والتقدم العلمي، فمن بين أفضل مئة جامعة في العالم، منها خمس جامعات إسرائيلية، ويمكن أن نتعلم منها الغيرة على مواطنيها اليهود، وتغيير الحكومات وكأنها كلينكس. فإسرائيل تغير حكوماتها بمعدل حكومة كل سنتين، بينما حكوماتنا راسخة إلى الأبد أو أدنى. نذكر بأن أولمرت محبوس في قضايا فساد، أما الفرس الإيرانية، فليس لديها ما تقدمه لنا سوى اللطم والحزن والأحقاد.
إيران مشغولة بتغيير عقائد الشعب، أما إسرائيل، فتهمّها النخبة الحاكمة الإسلامية. وإذا كانت إسرائيل احتلالية للأرض، فإن إيران احتلالية توسعية وحلوليه العقيدة. وتسعى نحو التهام العقيدة. لقد عادت فارس في صورة إيران، وعاد الروم في صورة إسرائيل، وشهوة إسرائيل للدم أقل، أو هي مقنعة، فهي متحصنة، وجبانة، كما أسلفنا، بينما شهوة إيران للتمدد أكبر، وإسرائيل تميل إلى عقيدة الجيتو والتحصن، واليهودي لا يحب تهويد شعوب أخرى، بينما تعمل إيران على التشييع الصفوي، والانتقام لكسرى وأزدشير، وسوى ذلك؛ أن إسرائيل جبانة، وإيران شجاعة، فهي تؤمن مثلنا بالشهادة والجنة، وقد استطاعوا مواجهة العراقيين الأشداء، إبان حكم صدام حسين، بالعمليات الانتحارية ومفاتيح الجنة.
وفجور إيران يظهر من هذين المثالين:
لا أعرف عدد مؤتمرات الحوار والتقارب بين السنة والشيعة، وقد يئس القرضاوي أخيرا منهم، ومال إلى رأي علماء الحجاز، وجرى مرة حوار بينه وبين رفسنجاني على الهواء، فكشّه القرضاوي كشة ملك الشطرنج، عندما قال له: في كل بلاد السنّة مساجد للشيعة، فلمَ ليس للسنّة في إيران مساجد؟ فسكت رفسنجاني، ولم يحر جوابا.
المثال الثاني من دافوس، وهو اللقاء الشهير الذي صدع فيه أردوغان بالحق، ووبخ شمعون بيريز ذلك التوبيخ، وانسحب من القاعة. والغريب أن شمعون بيريز سكت، وأظنه خجل من الدم، ولم يدافع عن نفسه، كأن يقول: إن المذبحة مفبركة، وإن هذا كذب، بينما عملت تلفزيونات إيران على تزوير خطاب مرسي وخطاب أردوغان على رؤوس الأشهاد.
وإذا كانت إيران من المنطقة، وإسرائيل مختلقة ووافدة، فهذا لا يبيح لإيران الاحتلال وإشاعة الحلولية.
فَعَلَى أيّ جَانِبَيْكَ تَمِيلُ؟