تُوصف الاختلافات الدينية والفكرية والسياسية في أوساط المجموعات المنتمية للتيار الجهادي، بأنها ذات طبيعة حدية صارمة، بسبب تعاطي تلك الجماعات معها من زاوية الكفر والإيمان، وليس من باب اختلاف الاجتهاد في فهم الواقع وإنزال الأحكام الشرعية الملائمة له، وتباين النظر في تقدير مسائل السياسة الشرعية بحسب باحثين.
وُيرجع باحثون وناشطون كثرة الانشقاقات في أوساط تلك الجماعات إلى طبيعة البنية الدينية لأتباع ذلك التيار، التي تجنح بطبيعتها إلى التشدد في الرأي والموقف، كأحد أبرز الأسباب وأهمها، ما ينتج عنها تضاؤل مساحة إعذار المخالف، والنزوع إلى اتهامه وتجريحه بما يسقط عدالته، وربما استباحة دمه.
ووفقا للباحث الفلسطيني في شؤون الحركات الجهادية، أحمد أبو فرحة، فإن "ظاهرة الانشطار والتشظي في أوساط تيارات السلفية الجهادية ترجع إلى أسباب عدة، يأتي في مقدمتها إسقاط فكرة الطائفة المنصورة على التنظيم أو التيار ما يجعل أي اختلاف يأخذ طابعا عقديا، الأمر الذي يصعب سبل التفاهم، ويُفشل مساعي لملمة الصف".
وأضاف أبو فرحة لـ"
عربي21": "ونتج عن خلل ترتيب الأولويات في أوساط تلك التيارات، واعتقادها أن "الأقرب" أخطر -بمعنى أن الذي يلتقي معهم في الطرح مع وجود الاختلاف هو الأخطر على التنظيم- تنامي ظاهرة الانشقاقات والصدامات بين تلك الجماعات والمجموعات".
وتابع: "لو أن تلك التيارات عظمت ما تلتقي عليه من أصول، وتجتمع حوله من أهداف وغايات ومقاصد، لجمدت خلافاتها مؤقتا على الأقل، وتوحدت في مواجهة العدو الأبعد، والأشد خطرا عليها جميعا، وهو ما سيقلل تشظياتها وانشقاقاتها".
واعتبر أبو فرحة المتخصص في شؤون الحركات الجهادية "شيوع فكرة النقاء والتصفية في أوساط تلك التيارات، من الأسباب التي تقف وراء ظاهرة انشقاق تلك التيارات وتشظي مجموعاتها، لأن كل خلاف في جماعة من جماعاتها يدفع بالاتجاه الأقوى فيها إلى تصفية التيار الآخر داخلها، لاعتقاد وجوب تنقية الصفوف من "الخبث""، على حد عبارته.
ورأى أبو فرحة أن "حب القيادة والزعامة عند كثير من القادة، حملهم على تغليف خلافاتهم بغلاف فكري أو عقائدي، ونظرا لشيوع حالة تقديس الأتباع للرموز والقيادات، فإن الخلاف غالبا ما يتحول بسرعة إلى انشقاق أو قتال".
ولفت أبو فرحة إلى أن شيوع العقلية الإقصائية، والتكفير سواء العقائدي منه أو السياسي، غالبا ما يجعل كل خلاف مشروع بمثابة إعلان الحرب، منوها إلى شيوع تلك الظاهرة في مجتمعاتنا العربية بصفة عامة، وفي أوساط التيارات الجهادية بصفة خاصة.
من جهته، رأى الباحث المغربي مزوز عبد الغني، أن "العمل السياسي والجهادي عند جماعات السلفية الجهادية يرتبط بمفاهيم الولاء والبراء، والحلال والحرام، وخاضع في تفاصيله الصغيرة لسلطة الفتوى، بالتالي، فإن الممارسة السياسية والثورية في هذه السياقات تتسم بالحساسية المفرطة، وتقترب إلى حد كبير من "الشعيرة التعبدية" أكثر من الفعل السياسي النسبي الخاضع لمعايير الخطأ والصواب، والقابل دوما للمراجعة والاستدراك".
وتابع مدير موقع "الإسلام الثوري نيوز" حديثه لـ"
عربي21": "يكون الانشقاق عند بعض هذه الجماعات -وعند أبسط خلاف ينشب بينهم- فرضا دينيا تحتمه عقيدة الولاء والبراء، ووجوب تنزيه الذات عن اقتراف الحرام، وتجنب تكثير سواد قوم ليسوا على الحق".
وذكر عبد الغني أن "
تنظيم الدولة الإسلامية -على سبيل المثال- انقسم إلى طوائف متناحرة عند أول مسألة منهجية وقع حولها الخلاف بين قادته وعناصره، ألا وهي مسألة "العذر بالجهل"، فتبادلوا تهم التكفير والعمالة، واغتال بعضهم بعضا".
وأشار عبد الغني إلى "وجود خط جهادي تصحيحي صاعد الآن في سوريا، وفي منطقة الساحل والصحراء وغيرها من المناطق، زاوج بين العقيدة الجهادية الصلبة وبين الخطاب السياسي المرن، ويحاول عبر ممارساته وأدبياته صياغة نموذج جهادي جديد يقطع مع مدرسة السلفية الجهادية الموسومة بالغلو، والمتشبثة حرفيا بتراث الدعوة النجدية، التي أفرزت نماذج جهادية شاذة كتنظيم الدولة بأفرعه المتعددة.
وطبقا لملاحظة الباحث المغربي عبد الغني، فإننا إذا ما استثنينا تنظيم الدولة الإسلامية والتنظيمات المبايعة له، والمقربة منه، فإن
الجماعات الجهادية الأخرى لم تقم بتصفية المنشقين عنها، ممثلا لذلك بجماعة التوحيد والجهاد، وكتيبة "الموقعون بالدم" بزعامة مختار بلمختار عن تنظيم
القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من غير أن تنشب مواجهات مسلحة بينهم، بل تعاونوا على أكثر من صعيد قبل ظهور تنظيم الدولة.
وتابع: "وانشقت بعض الكتائب والأفراد عن هيئة تحرير الشام دون أن يستتبع ذلك مواجهة بينهما، وانشق مختار روبو عن حركة الشباب المجاهدين لسنوات عدة دون أن تتخذ الحركة إجراء بحقه، حتى التحق بالحكومة الصومالية قبل أشهر".
وفي السياق ذاته، أكد الشرعي الأردني مجدي أبو نجم أنه وبحكم تجربته ومعايشته لواقع الفصائل السورية المقاتلة، فإن أبرز أسباب ظاهرة انشقاق تيارات السلفية الجهادية يتمثل بنزوعها القوي إلى التشدد في الرأي والموقف، ما يجعلها تجنح إلى اتهام كل مخالف لها بالتمييع والتساهل والتفريط.
وجوابا عن سؤال "
عربي21": "لماذا يغلب على تلك التيارات اللجوء إلى القوة والخيار العسكري في معالجة خلافاتها؟"، أرجع أبو نجم ذلك إلى "غياب ثقافة استيعاب المخالف، ما ينتج عنه أنه وبمجرد وقوع الاختلاف حول أحكام اجتهادية حول تقدير الواقع وما يتطلبه من أحكام شرعية، والتي تكون من قبيل السياسة الشرعية، فإنها تتحول فورا إلى خلافات عقدية، تترتب عليها انشقاقات ومصادمات".
ولم ينف الناشط والشرعي الجهادي أبو نجم ما يقال عن طبيعة البنية الذهنية الحاكمة لأتباع تلك التيارات الجانحة إلى التشدد في كل شيء، ما يفجر النزعة الاتهامية الجارفة ضد كل الجماعات والشخصيات التي لا توافقها على كل أفكارها واختياراتها.
وبيَّن أبو نجم في رده على إمكانية إيجاد حلول ناجعة لتلك الحالة المرضية المتفشية (الانشقاقات والمواجهات الدموية) في أوساط تلك التيارات، أن العلاج ممكن في حالة الاعتراف بوجود تلك المشكلة المستفحلة ابتداء، لأن الغالب في تلك الأوساط التنكر لها، وعدم الاعتراف بها.
وتابع حديثه: "وبعد الاعتراف بوجود تلك الآفة المهلكة، يجب إعطاء فرصة للعقلاء من رموز وشيوخ تلك التيارات لمعالجة ذلك، بإشاعة ثقافة إعذار المخالف واستيعابه، والتعاطي مع القضايا بمنطق الاجتهاد في تقدير المصالح والمفاسد، بناء على فهم الواقع وما يناسبه من أحكام شرعية".
وانتهى أبو نجم إلى القول: "إنه وبحكم معايشته اللصيقة للتجربة السورية، فقد لمس وجود توجهات لدى أبناء تلك التيارات لمراجعة تلك الأفكار المؤسسة والمنشئة لتلك الظواهر المرضية المتفشية في أوساطها"، مضيفا أن "بعض الرموز والأتباع باتوا يستشعرون خطأ استنساخ التجارب الجهادية من مواقع أخرى، التي لا بد من إعادة النظر في جملة الأفكار المؤسسة لها، وما نتج عنها من نتائج محزنة ومآلات مؤسفة".