هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
جاء عبد الفتاح السيسي يكحلها فأعماها، وأراد أن يفر بجلده من الاتهام بانتهاك حقوق الإنسان، فاعترف بفشله في إدارة الدولة المصرية، فلا يمكن لأحد من أنصاره أن يقول بعد اليوم أنه نجح في شيء. وفي لحظة فراره ارتكب جريمة إهانة مصر في الخارج، وذكرنا بالرئيس السادات، وهو يقول مندهشاً: "إنهم يهاجمون مصر في الخارج يا ولاد"!
فلأن عدداً كبيراً من معارضي السادات، تركوا له الجمل بما حمل، وغادروا إلى "بغداد" و"دمشق" و"باريس"، ولأن صحف الخارج كان تستضيف المعارضين على صفحاتها لاسيما "الحياة" و" الشرق الأوسط"، ومن في الداخل كانوا يجدون متنفساً في هذه الصحف، فقد صب الرئيس الراحل جام غضبه عليهم، لأنهم يهاجمون مصر في الخارج، وباعتباره مصر، ومن يختلف مع سياساته في الخارج، فإنه يهاجم الوطن، عندما توحدت مصر في شخصه، ثم تحولت هذه الصحف عنده، إلى صحف تهاجم مصر، ولا يجوز للكتاب المصريين الوطنيين أن يتعاملوا معها، ومن هنا قرر أن من يكتب فيها لا يكتب في الصحف المصرية، وطلب من رؤساء تحرير الصحف القومية إعمال هذه السياسة، فعرض "موسي صبري" رئيس مؤسسة "أخبار اليوم"، على "مصطفي أمين" أن يختار بين الكتابة لـ"الشرق الأوسط"، والكتابة لـ "الأخبار"، وكان ينشر عموده اليومي "فكرة" هنا وهناك، فاختار "الأخبار"، وأقترح على "إبراهيم سعدة" أن يختار بين موقعه مديراً لتحرير "الأخبار"، أو الاستمرار في موقعه مديراً لمكتب "الشرق الأوسط" في القاهرة، فكان قراره أن يتقدم بإجازة من "الأخبار"، لكن "موسى" نصحه كثيراً بألا يُغضب الرئيس، بهذا الاختيار، ولما فشل في دفعه للعدول عن هذا القرار منحه مهلة للتفكير.
لم يكن "إبراهيم سعده" قد عدل عن قراره، عندما اتصل السادات بموسى صبري، ويبدو أنه كان في عجلة من أمره ليسأله: "ماذا فعلت يا موسى"؟، ليجيبه موسى بأن الجميع أثبتوا ولاء لمصر منقطع النظير، فمصطفي أمين عندما عرض عليه الأمر، اختار "مصر" فوراً، وحتى "إبراهيم سعدة" اختار "مصر"، رغم أن "آل حافظ" السعوديين (ناشري الشرق الأوسط) يعطونه خمسة أضعاف راتبه في "الأخبار"، ليعلق السادات على هذه القرار بقوله "وطني إبراهيم سعدة ده يا موسى"، فقد صار الأمر له علاقة بالوطنية والخيانة، وعلى أساس أن استمرار "سعده" في عمله في الجريدة السعودية، يسقط الثقة والاعتبار الوطنيين!
ولأن "سعدة"، أثبت أنه وطني حد تضحيته براتبه من الجريدة السعودية، وتفضيل "الأخبار" عليها، فقد أقر له الرئيس بأنه على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وعليه فقد طلب أن يصطحبه معه غداً في اللقاء الذي كان يعقده في استراحة القناطر، ويضم رؤساء التحرير بجانب الصحفيين الشبان الذين كان "يتوسم" فيهم السادات خيراً، في جلسات ليست للنشر، يتحدث فيها كثيراً ويستمع لبعضهم قليلاً!
في بداية اللقاء "القعدة" تحدث السادات عن الخونة الذين يهاجمون مصر في الخارج، ثم عرج إلى الصحفيين الوطنيين، الذي رفضوا أن يستمروا في العمل في صحافة الخارج التي تهاجم أم الدنيا، وفضلوا الصحافة الوطنية، وضرب مثلاً بإبراهيم سعدة، وعليه فقد أعلن تعيينه رئيساً لتحرير جريدة "أخبار اليوم"، وانزعج "موسى صبري"، فلم يكن هذا هدفه، فقد أراد أن يرضي السادات، ولم يستهدف أن يكون "إبراهيم سعدة" الذي لم يكن قد تجاوز الأربعين من عمره رئيساً لتحرير المطبوعة الأسبوعية للمؤسسة، ووقف ليقول للسادات، إن "إبراهيم" و"سعيد سنبل" يتوليان منصب مدير تحرير "الأخبار"، و"سعيد" هو الأقدم والأكبر سناً، واقترح عليه "إما أن يعينا معاً رئيسا تحرير أخبار اليوم"، أو أن تؤجل ترقية "إبراهيم سعدة"، إلى حين البحث عن "ترضية" مناسبة لـ "سعيد سنبل"!
يقول الراوي إن السادات قبل أن يستدرك ويطلب ترك موضوع "سنبل" الآن ليبحث عن تسوية له في المستقبل، قال: "يا موسى مش رايحين نحولها إلى كنيسة"، في إشارة لكون "موسى صبري"، و"سعيد سنبل" مسيحيين!
ولم يكن الأمر له علاقة بالديانة، من وجهة نظري، وإنما كان السادات يدافع عن قراره، ويرى أن المكافأة لهذا الموقف الوطني، ينبغي أن تتجاوز فكرة الأقدمية والسن، وإلا تكون قد فقدت قيمتها، ولم يكن "موسى صبري" مشغول بمشاعر "سعيد سنبل"، وإنما كان يترافع في قضية مصيرية له، فلم يكن يستهدف الترقية وإنما كان يريد ادخال السعادة على قلب الرئيس بوطنية (أولاده)، حيث كان الوالد الكريم يؤمن من داخله بأنه مصر، وأن هذه الصحف تهاجم مصر في شخصه، باعتباره رمزها وكبير العائلة، كما يطلق على نفسه!
في طريق العودة، كان "موسى صبري" في سيارته كمحام أرهقته المرافعة، فلم يتكلم أبداً، فقد نزل عليه "سهم الله"، فكان المتكلم هو "إبراهيم سعدة"، الذي يعلم أنه لم يكن وطنياً خالصاً بمقاييس السادات، وأنه جاء لموقعه بضربة حظ، لم يحسب لها "موسى"حساباً. كان "سعدة" يشكر "موسى" على موقفه النبيل، ومقراً له بالجميل، فلما لم يرد انطلق يبدي حرجه من "سعيد سنبل" لأنه هو الأحق بالمنصب، ولم يرد "موسى صبري". وهذه الليلة هى التي حكمت العلاقة بينهما، فلم يكونا على وفاق أبداً، رغم تدخل كبار الشخصيات في الدولة للصلح بينهما، وكان "إبراهيم سعدة" عندما يبلغ الجفاء بينهما مبلغه، يمارس مع رئيس المؤسسة "موسى صبري" سياسة المكايدة، باستكتاب الصحفي المضطهد "محمود عوض" في يوميات الصفحة الأخيرة، لمرة واحدة ثم يتركه لعدة شهور لمناسبة أخرى!
أما مكتب جريدة "الشرق الأوسط" فكان يعمل فيه شاب طموح تخرج حديثاً في كلية الإعلام، فجلس على مكتب المدير، واتصل بأحد الناشرين ليخبره أنه سيدير العمل في المكتب إلى حين اختيار مدير جديد، وقد أكبرن فيه ذلك لأنه باع وطنه بمعايير السادات، وبعد تفكير كان القرار أنه الأجدر بأن يصدر له قرار اعتراف بأنه مدير مكتب الجريدة في القاهرة، وكان تصرفه فاتحة خير عليه، حيث انفتح على الدولة السعودية واستفاد من ذلك كثيراً. وكان هذا الشاب هو "عماد أديب"!
وقد اغتيل السادات، بعد أن رآى مبارك حجم الغضب الذي كان يسببه له الصحفيون في الخارج، وقد فشل الرئيس الراحل في الانتقام منهم بإسقاط عضويتهم في النقابة، بعد أن رفع نقيبها شعار "العضوية كالجنسية" لا تسقط عن حاملها، فكان أن كلف مبارك نقيب الصحفيين بالسفر للخارج وإقناع هؤلاء الصحفيين بالعودة، وأعادهم إلى أعمالهم، وحتى لا يهاجموا مصر في الخارج!
وقد استمتع مبارك، بأن القاعدة التي وضعها السادات، صارت عرفاً معتمداً، وساعده على ذلك المعارضة الرسمية، التي تبنت مقولة السادات، وروجت لقاعدة عدم الهجوم على مصر في الخارج، وباعتبار أن المعارضة في الخارج، هى عمل من أعمال الخيانة، وفي الحقيقة فقد كان هذا شعاراً يدارون به سوءاتهم لأنهم لم يكونوا يعارضون معارضة جادة لا في الداخل ولا في الخارج!
وقبل المصالحة بين القذافي ونظام مبارك بعد القطيعة في عهد السادات، كان مؤتمراً لاتحاد المحامين العرب ينعقد في ليبيا، عندما صب القذافي جام هجومه على السياسة المصرية، فقاد نقيب المحامين " أحمد الخواجة" انسحاباً للوفد المصري، على أساس أنه يعارض النظام في الداخل لكنه لا يقبل ان يعارضه في الخارج، ولم يكن الخواجة معارضاً في داخل مصر، فقد جاء به أهل الحكم ليسقطوا النقيب المعارض "عبد العزيز الشوربجي"!
والمؤسف فعلاً أن المعارضة التي كانت في عهد السادات متهمة بالهجوم على مصر في الخارج (وهى المعارضة اليسارية) تبنت مقولة السادات عندما ظنت أنها جزء من السلطة بعد انقلاب 30 يونيو، والقاعدة: "تعالوا عارضوا من الداخل"، وهى دعوة باطلة الهدف منها الوقوع في أسر النظام الاستبدادي، الذي ينكل بمعارضيه، ويتعامل مع الصحافة على أنها جريمة، ومع الرأي المعارض على أنه عمل من أعمال الخيانة، فضلاً عن عدم وجود منابر اعلامية تتحمل النقد ولو بشطر كلمة، وبوقف المعارضة في الخارج تنتهي المعارضة تماما.
الطامة الكبرى أن من أهان مصر في الخارج هو من ينتحل صفة الرئيس، ولم يكن ما قاله هو نقد لسياسة حاكم، وإنما وجه إهانة مباشرة للشعب المصري عندما وقف في قصر الإليزيه يرمي المصريين بالتخلف، والجهل، والفقر، والتطرف، من غير أن يهتز له رمش، ونسى أنه اعترف بفشله في حل كل هذه المشكلات بعد أربع سنوات قضاها في الحكم!
إنه يهين مصر في الخارج.