يمكن القول بأن الرئيس الباجي قايد
السبسي قد حير النخبة
التونسية ولا يزال بأسلوبه في تحديد مواقفه من الفاعلين السياسيين. فهو أشبه بقلب الهجوم في رياضة كرة القدم، يعتمد كثيرا على المراوغة، إذ تحسبه سيميل نحو اليمين في حين أنه يقصد التوجه نحو
اليسار.
ويتجلى ذلك بالخصوص في تصريحاته وخطبه، إذ له فن في الخطابة يكاد ينفرد به من بين كل السياسيين. كما أنه عنيف عندما يتعرض لهجوم مضاد من قبل خصومه أو منافسيه أو من انقلبوا عليه. لسانه حاد وذاكرته قوية وانفعالاته واضحة وقدرته على الإيذاء عالية جدا تتجاوز أحيانا المساحة المسموح بها لشخصيات تتولى إدارة الشأن العام.
خلال الأيام القليلة الماضية، استعمل السبسي سلاح المناورة مما أثار جدلا واسعا، وفتح المجال لتأويلات كانت مخيفة أحيانا. ففي تصريح سابق كاد أن يتسبب في فك الارتباط بينه وبين حركة
النهضة حين قال بأنه راهن على إدخالها مربع المدنية لكنه فشل في ذلك. وهو التصريح الذي أثلج صدور الكثيرين الذين ظنوا بأن العلاقة بين النداء والنهضة قد بلغت مرحلتها الأخيرة.
لكنه عاد في حوار جديد لكي يتراجع عما قاله من قبل، وبدل أن يتفاعل إيجابيا مع الذين رحبوا بهجومه المفاجئ على حركة النهضة، اتخذ اتجاها معاكسا حيث قام بتوزيع الورود على رئيس الحركة راشد الغنوشي وكذلك رئيس الحكومة السابق علي لعريض الذي أصبح يعتبر أحد الخصوم الرئيسيين لليسار التونسي بمختلف مكوناته على إثر اغتيال شكري بلعيد عندما كان يتحمل مسؤولية وزارة الداخلية.
وهكذا تعمد السبسي في حديثه الجديد طمأنه الإسلاميين وأزال من مخيلتهم الهواجس التي سكنتهم على إثر تصريحاته المعادية لهم. وهذا يعني أن الرئيس التونسي قد نجح في جعل قيادات حركة يقرؤون له ألف حساب، ويتفاعلون مع تصريحاته وتموجاته لما يمكن أن تتضمنه من رسائل من شأنها أن تنعكس مباشرة على الحاضر والمستقبل.
لكنه من جهة أخرى أكد ضمنيا انطلاقا من برغماتيته العالية أنه ليس من مصلحته أو مصلحة حزبه الاستغناء عن حركة النهضة أو إدارة الظهر لها في هذا الظرف بالذات الذي لم تتشكل فيه قوة سياسية بديلة، إضافة إلى ما يعانيه حزبه من ضعف وتفكك.
لم يكتف السبسي بطمأنة النهضة، وإنما عكس الهجوم على الناطق باسم الجبهة الشعبية حمى الهمامي، الذي اعتبر مؤخرا أن رئاسة الجمهورية أصبحت "بؤرة للثورة المضادة"، متهما ساكن قرطاج بالعمل على توريث ابنه. وهي اتهامات مؤذية جدا لرئيس الدولة، جعلته في حالة غضب واضح، ودفعته إلى اتهام الهمامي بتجنب الحقيقة، لكنه بدل أن يصفه بالكذب، اتهمه بالفسق معتمدا على الآية الكريمة " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا..".
وما كاد ينطق الرجل بذلك حتى انفجر جدل في البلاد حول مفهوم الفسق في سياق خطاب رئيس الجمهورية. ورغم أن مؤسسة الرئاسة رفضت أن يكون القصد من ذلك تكفير الناطق باسم الجبهة الشعبية غير أن استعماله آية قرآنية في سياق صراع سياسي ضد شخصية ماركسية تتزعم حاليا فصائل أقصى اليسار قد يكون بمثابة استعمال سلاح مزدوج. وهو ما من شأنه أن يفتح المجال أمام القول بأن السبسي قد يكون قصد من ذلك توجيه رسالة قوية لخصمه يؤكد له من خلالها أنه قادر على مناوشته في مجال من الصعب أن يجاريه فيه عموم اليسار.
ليست هذه أول مرة يتعمد فيها السبسي إبراز اختلافاته العميقة عن اليساريين التونسيين، ويؤكد من خلالها أن موقعه الطبيعي هو التيار الوسطي. لكنه هذه المرة ذهب إلى أكثر من ذلك، إذ يفهم من سياق حديثه أنه رغم خلافاته مع إسلامي حركة النهضة إلا أنهم يبقون أقرب إليه من اليسار، وسيزدادون قربا منه كلما توغلوا في مربع ما سماه ب " المدنية ". وكأنه بذلك يعبر عن اقتناعه بعدم جدوى المراهنة على اليسار الذي لا يزال يعاني من صعوبة أيديولوجية تحول بينه وبين أن يتحالف مع اليمين السياسي خوفا من يتهم بخيانة الطبقة العمالية وبالارتماء في أحضان البرجوازية والكبرادور.
هكذا يبقى اليسار الراديكالي بعيدا عن السلطة، وهو ما يجعل الإسلاميين من أهم المستفيدين من ذلك، لأنه يريحهم من خصم عنيد وعنيف ضدهم، ومن جهة أخرى يجعلهم يعتقدون بأنهم سيكونون بفضل مشاركتهم في الحكم متقدمين عن هذا اليسار في فهم المشكلات الكبرى التي تطرحها السياسة الواقعية على الفاعلين، كما أنها تمكنهم من خبرات أوسع في مجال إدارة شؤون الدولة.