في بلاد الاستعارات الميتة، في البلد التي تتحوّل فيها الإملاءات الدولية إلى مبادرات رئاسية- إذ نصّت المادة 14 من قرار برلمان الاتحاد الأوروبي المؤرخ في 14 سبتمبر 2016 على طلب رسمي من
تونس يتعلق بإلغاء أشكال"التمييز" ضد المرأة وتنقيح مجلة الأحوال الشخصية –وأساسا الزواج والمساواة في الإرث- كشرط من شروط تقديم المساعدات-، قد يكون من المفيد أن ننطلق من حكاية مثلية.
يُروى أن أحد اليهود ذهب إلى حبر من أحبارهم واشتكى إليه ضيق بيته. فما كان من الحبر إلا أن أمره بأن يحمل الحيوانات التي في زريبة داره ويسكنها معه في البيت. ففعل اليهودي ذلك. وبعد مدة سأله الحبر عن أحواله. فقال له يا سيدي: لقد طلبت منك أن توسّع علي فإذا بك تفتيني بما ضيّق عليَّ أكثر من ذي قبل. فقال له الحبر: إذا رجعت إلى منزلك فأرجع إحدى البقرات إلى الزريبة، وافعل ذلك مع باقي الحيوانات، واحرص على أن تُرجع كل يوم حيوانا واحدا فحسب، فإذا أرجعتها كلها إلى الزريبة زُرني وستفهم عندها الحكمة من فعلي. ففعل اليهودي ما أُمر به ثم جاء إلى الحبر وعلى وجهه علامات السرور والرضا. فقال له الحبر: كيف حالك الآن. فقال: بخير حال يا سيدي، لقد اتسعت الدار لي ولأهل بيتي وإني الآن في نعمة أُحسد عليها، ولم أكن لأعلم سعة منزلي من دون حكمتك، وإني لك من الشاكرين.
سواء أكان السيد قائد
السبسي وفريقه على علم بهذه الحكاية المثلية أم لا، من المؤكد أنّ أوامر المتحكمين الدوليين فيهم- وبالتالي ما يؤسس السلوك السياسي لوكلائهم في الداخل- يستعيد فلسفتها العامة. فلكي يبتعد السجال العام عن مصالح فرنسا وغيرها من القوى الدولية والإقليمية، ولكي يُنسيَ السيد قائد السبسي قاعدته الانتخابية ما جاء في البرنامج الانتخابي لحزبه من وعود زائفة (ضخ آلاف المليارات الخليجية في الاقتصاد التونسي، تحقيق نسبة نمو تفوق 5 في المائة، الكشف عن قاتل الشهيدين شكري بلعيد والبراهمي، عدم التحالف مع حركة النهضة، تشغيل مئات الآلاف من الباحثين عن العمل، مقاومة التضخم وتقوية الدينار التونسي، القضاء على الإرهاب، مقاومة الفساد الإداري...الخ) اعتمد دائما سياسة الهروب إلى الأمام، وذلك بطرح مبادرات تشريعية سمتها تعميق الاستقطاب السياسي والاحتقان الاجتماعي. وكان على جميع الفرقاء أن يستفرغوا طاقاتاهم إما في مساندتها أو في انتقادها، بحيث يكون من المحال الدفع بالسجال العام نحو منطقة يجد فيها رئيس الدولة وعلى ما تبقّى من حزبه أنفسهم مضطرين إلى مواجهة وعودهم الانتخابية، بل مواجهة فضائح الكثير من وزرائهم الذين تعلقت بهم شبهات فساد جدية.
لا شك في أنّ المبادرتين اللتين أطلقهما رئيس الجمهورية بمناسبة عيد المرأة (أولا إلغاء المنشور الصادر عن وزير العدل بتاريخ 5 نوفمبر 1973 والقاضي بمنع عدول الإشهاد وضباط الحالة المدنية من إبرام عقود زواج المسلمة بغير المسلم، ثانيا التسوية في الميراث بين الجنسين)، تتنزّلان في الفلسفة السياسية ذاتها. ذلك أنّ رئيس الدولة سيزيد في مشاكل البلاد ولكنّه سينسي الناس الكثير من مشاكلهم المرتبطة بـ"وضعية الانطلاق"، أي المرتبطة بوعوده الانتخابية هو وحزبه. وهو ما يعني واقعيا أن ينشغل الجميع مرة أخرى بسجالات هووية ثقافوية سيكون له خراجها أنّى أمطرت.
ومهما كان مستقبل مبادرتيه، فإن رئيس الدولة قد جرّ خصومه و"شريكه اللدود" إلى المنطقة المفضلة للعقل السياسي الدستوري-التجمعي: منطقة الصراعات الهووية التي ستجعل من الخطاب النيو-تجمعي هو الخطاب الكبير أو الخطاب المرجعي "الوسطي" الذي سيُجنب البلاد غلوّ الإسلاميين وتطرف اليساريين.
بعد الخطاب"التاريخي" لرئيس الدولة، كاد السجال العام في وسائل الإعلام التقليدية وفي وسائل التواصل الاجتماعي أن ينحصر في قضية التسوية في الميراث. أمّا قضية إلغاء منشور سنة 1973 الذي يمنع زواج التونسية المسلمة من غير المسلم، فإنه لم يشهد الحماسة نفسها ولا الانقسام الحاد عينه لأسباب تحتاج إلى دراسة معمقة.
ولا يمكن الاحتجاج لهذا "التهميش" بأنّ قضية زواج المسلمة بغير المسلم يضبطها منشور مخالف لأحكام الدستور ويكفي إلغاؤه لحل المسألة . كما لا يمكن الاحتجاج بأنه لا وجود لقانون يمنع ذلك، خاصة وأنّ منشور سنة 1973 مخالف لما جاء في الفصل 14 من مجلة الأحوال الشخصية. فهذا الفصل يذكر أن الموانع الشرعية للزواج هي موانع مؤبدة أومؤقّتة، ولا وجود فيها لما يمنع زواج المسلمة بغير المسلم. لكنّ هاتين الحجتين وغيرهما لا يمكن أن تُقدما إجابة حاسمة عن السؤال التالي: لماذا يقبل التونسيون ضمنيا أن تتزوج المسلمة بغير المسلم ولا يقبلون أن تكون مساوية للرجل في الميراث؟.
لا شك في أنّ قضية الميراث هي قضية رمزية واقتصادية كبيرة عند مختلف الفاعلين الجماعيين من إسلاميين وعلمانيين، بل إنها تجعل من قسمة الناس إلى إسلاميين وعلمانيين قسمة بلا معنى ولا تمتلك أي قدرة تفسيرية. فالانقسام في هذه المسألة هو أساسا بين المتدينين تدينا تقليديا –أي الملتزمين بالتراث الفقهي وبأحكامه القطعية حتى إن لم يكونوا من الملتزمين دينيا-، وبين المتدينين تدينا غير تقليدي ومعهم غير المؤمنين أو اللاأدريين. ذلك أنّه يوجد من غير الملتزمين دينيا من يرفض المساس بأحكام الدين المأخوذة بالاعتبار في المدونات الفقهية، كما يوجد من الملتزمين دينيا من ينظر إلى المسألة نظرا مقاصديا يتجاوز حتى الشاطبي نفسه ويجعله يلتقي موضوعيا مع غير المؤمنين واللا أدريين، أي مع أولئك الذين يعلنون انتماءهم للإسلام "حضاريا" و"أنثروبولوجيا" لا دينيا.
بعد هذه المقدمة المطوّلة للسياق العام الذي يتنزل فيه خطاب الرئيس و"مبادرتيه" (أو بالأحرى إملاءات الاتحاد الاروبي على تونس )، يمكننا أن نطرح جملة من الإشكاليات التي سنحاول أن نقدم لها بعض عناصر الإجابة في الجزء الثاني من هذا المقال بإذن الله:
-ما هي التأثيرات الممكنة لكون مبادرة الرئيس لا تعكس حركية مجتمعية عفوية ونقاشا عاما صادقا وعقلانيا بقدر ما تعكس إملاءات"المانحين" الأجانب، خاصة إملاءات فرنسا المسكونة بالنزعة الاستعمارية الثقافية بدعوى الدفاع عن "الحقوق الكونية" للمرأة وغيرها؟
-هل يمكننا اعتبار الإسلام السياسي- من باب مكر العقل في التاريخ أو مكر الغرب بالثورة- هو الشرط الضروري لتمرير ما عجز عنه بورقيبة ومن بعده المخلوع من تشريعات، وما هي حدود حركة النهضة في التعامل مع هذا الواقع المعقد؟
-كيف يمكن التعامل بإيجابية مع مقترحات الرئيس دون الوقوع في المركزية الأنثوية بديلا عن المركزية الذكورية المهيمنة، أي كيف يمكن جعل أي مبادرة تشريعية تهدف إلى التقدم بالمجتمع نحو وضعية جديدة –وأكثر إنسانية- قابلة للتحقق في ظل المقاومة المتوقعة من العديد من الأطراف، وفي ظل رغبة أطراف أخرى بألا يكون"الغُرم على قدر الغُنم"؟
- هل من معنى للحديث عن إخراج الدين من السياسة في ظل هيمنة السلطة السياسية على الدين ومحاولة فرض خياراتها على مجموع"المؤمنين"، وإلى أي حد يعيق رئيس الجمهورية-ومن وراءه من لوبيات الضغط النسوية والفرنكفونية- انبثاق حقل سياسي طبيعي؟
- ما هي الاستتباعات المنطقية والتشريعية لتغيير نظام المواريث، خاصة وأن نظام المواريث هو جزء من "منظومة" Systeme الأحوال الشخصية، كما أنه انعكاس لبنية مجتمعية معينة من جهة الالتزامات المتبادلة بين الذكور والإناث؟
-هل يمكننا أن نتحدث عن "توافق" يحكم الواقع السياسي التونسي –باعتبار الصيغة الصرفية دالة على المشاركة والحركة في الاتجاهين-، أم إن علينا تسمية الأشياء بأسمائها والحديث عن النهضة باعتبارها "إسلاما وظيفيا" لا يختلف في شيء عن "اليسار الوظيفي" من جهة دورهما "المشبوه" في تأبيد منظومة التسلط والتبعية؟