يستند غالبًا نقد المقاومة الفلسطينية، لا من جهة أدواتها وتفاصيلها، وإنما من جهة جدواها، إلى فشل الكفاح المسلّح في تحقيق أي إنجاز سياسيّ للفلسطينيين، وهذه الرؤية للمقاومة أو الكفاح المسلّح، تُستخدم لأغراض مختلفة، بحسب نوايا ومواقع المؤمنين بها أو مستخدميها، إذ ثمة مفارقة، بدت صارخة في التسويق لمشروع التسوية حينما بلغ ذروته، فقد استُخدم الكفاح المسلّح على نحو متناقض -وفي الوقت نفسه ومن أطراف التسويق الفلسطيني ذاتها- لتزيين اتفاقية أوسلو.
دعاية القيادة الفلسطينية المتنفذة التي قامت على تلك الاتفاقية، جعلت منها –أي أوسلو- ثمرة لكفاح الفلسطينيين ونضالاتهم الطويلة، البعيدة منها كالثورة الفلسطينية في الشتات، أو القريبة منها كالانتفاضة الأولى، بهذا الاعتبار مُنح الكفاح المسلّح إنجازًا سياسيًّا، وعُدّ ناجحًا في البلوغ بالفلسطينيين إلى غاية سياسية.
لكن في الوقت نفسه وحينما كانت الدعاية المضادّة تحذر من ثغرات أوسلو الخطيرة ومآلاتها المدمّرة؛ كان أصحاب الدعاية أنفسهم يقولون إن اللجوء لهذا الخيار كانت نتيجة الفشل في الكفاح المسلّح، أو حتى في الانتفاضة الشعبية، قال بعض رؤوسهم حينها "هل سينتظر الفلسطينيون عشرين عامًا أخرى في النضال للوصول إلى نتيجة تنتهي فها معاناتهم؟!" الآن يمكن القول إن الفلسطينيون عاشوا بعد اتفاقية أوسلو خمسة وعشرين عامًا تقريبًا دون الوصول إلى نتيجة تنتهي فيها معاناتهم!
صحيح أن تلك الرؤية للكفاح المسلّح المتمنطقة بادعاءات الخبرة والتجربة كانت وظيفية في سياق الدعاية والمناكفة، ولكنها تصلح منطلقًا لإعادة قراءة مفاهيم النجاح والفشل، فذلك الاستخدام الدعائي وفّر علينا كثيرًا من حشد الحجج بربطه الكفاح المسلّح ببديل آخر هو مشروع التسوية الذي بات يحظى –بلا شك- بالاتفاق الكامل على فشله.
ليس كل من يتخذ الآن موقفًا رافضًا للكفاح المسلّح، بزعم فشله في البلوغ بنا إلى غاية سياسية معقولة، ينطلق من أسباب دعائية أو سياسية داخلية ضيقة، وإنما ثمّة من يتبنى هذه القناعة مجرّدة عن دواعي المنافسة والدعاية والمناكفة، ويستحق أن يُناقش من على هذه الأرضية المجرّدة، بيد أن المقارنة ما بين خياري المقاومة والتسوية السياسية يصلح مدخلاً لتحرير المفاهيم وتحديد الفرق بين كل من المسلكين حين البحث في النجاح والفشل.
بداهة، سلوك طريق التسوية بديلاً عن الكفاح المسلّح، يعني البحث لا عن طريق يوفّر المعاناة فحسب، ولكن عن طريق أسرع وصولاً إلى ثمرة مرجوّة، وإن كان الأمر كذلك فإن طول الطريق يعني فشل هذا المسلك، وفي حال أمكن الجدل في هذه النقطة، فإنه ينبغي الاتفاق على أن طول الطريق مع استمرار المعاناة أو زيادتها هو فشل مؤكّد لا مراء فيه.
والآن وبعد 25 عامًا تقريبًا على أوسلو لا يمكننا القول إلا أن طريق التسوية قد انتهى إلى فشل، لطول الطريق أولاً، ثم للمعاناة المتزايدة التي استصحبناها في هذا الطريق، ويجدر بنا هنا أن نتذكر مقولة دعاية اتفاقية أوسلو الفلسطينية التي "أشفقت" على الفلسطينيين من عشرين عامًا أخرى من النضال، ها هي تمنحنا المعيار نفسه للحكم عليها بالفشل، لا سيما مع استمرار المعاناة وزياداتها ومنح العدو الفرصة لتحقيق المزيد من الوقائع التهويدية على الأرض، وجعل حلّ الدولتين محالاً.
لكن هل يُحكم على المقاومة بذات المعايير التي نحكم بها على مشروع التسوية؟! والجواب لا. فبحسب كل من دَفَعَ نحو مشروع التسوية عَدَل عن الكفاح المسلح للتوفير في الزمن والمعاناة، وهذا يعني أن حضور عاملي الزمن والمعاناة في حالة المقاومة مختلف عن حضوره في حالة التسوية.
ثمة عوامل متعددة ومتداخلة جدًّا تحكم قدرة المقاومة على تحقيق الإنجاز في الزمن، ابتداء من العامل الجوهري المتمثل في اختلال ميزان القوى المباشر لصالح العدوّ المدجّج الذي يملك كل أدوات القوّة والسيطرة، ثم بالظروف الموضوعية التي تحكم جغرافيا المقاومة، من مساحة الأرض وعدد السكان وطبائع الاجتماع ودول الجوار، ثم بشكل ومادّة الصراع نفسه، وموازين القوى الإقليمية والدولية، وأخذ هذه العوامل الموضوعية ضروريّ حتى لا نقع في مقارنات ظالمة أو اعتباطية ما بين مقاومة الشعب الفلسطيني، وغيره من الشعوب التي قاومت الاستعمار.
لكن مبدأ المقاومة نفسه يستدعي المعاناة، ولا يقبل أن تتخلله شعارات عن الرفاهية أو البناء الماديّ، ورفع هذا النوع من الشعارات من الأخطاء الجسيمة التي قد تقع بها أي حركة مقاومة، وهي أخطاء قد تؤدّي على المدى البعيد إلى المسّ بالوعي، وفضّ المجتمع من حول المقاومة لأنها فشلت في تحقيق وعودها، التي وللمفارقة تتناقض مع طبيعة مهمّتها.
بصرف النظر عن مستويات المعاناة التي عاشها الفلسطينيون نتيجة لمقاومتهم ومقارنتها بغيرها من كفاحات الشعوب، فإن جانبًا من مضاعفة الإحساس بالمعاناة متعلّق بمحايثتها لمشروع التسوية، وبأخطاء لقيادة المقاومة، أكثر مما هو متعلّق بمبدأ المقاومة نفسه.
مثلاً الإحساس المضاعف للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة بالمعاناة، سببه إحساسهم بالتفرّد بهذه المعاناة بالقياس إلى إخوانهم في الضفّة، وهذا بالضرورة يزيد من الشعور بالمعاناة للشعور بالمظلومية وما يتولّد عنها من إحساس مناطقيّ، وخلق قضايا خاصّة بمناطق جغرافية معيّنة قد تحرف المقاومة عن وظيفتها، فلو أن هذه المعاناة كانت عامّة، لكان الشعور الجمعيّ بها أخفّ حتى لو كانت قاسية في ذاتها.
وما جعل هذه المعاناة والإحساس بها أكبر، هو محايثة المقاومة لنتائج ومؤسسات وهياكل اتفاقية أوسلو، فوجود السلطة الفلسطينية دفع حماس في النتيجة للدخول إلى السلطة، ورفْعِ الشعار المتعارض مع طبيعة المقاومة، وقد ترتب على ذلك، فشل الوعود في تحقيق "البناء"، ثم تميّز غزّة دون الضفّة بنمط من المقاومة لم يكن ممكنًا –في السنوات الماضية وحتى اللحظة- اجتراح مثله في الضفّة لاختلاف الظروف الاستعمارية في الجغرافيتين، ولوجود سياسات سلطوية نقيضة للمقاومة في الضفّة.
إن العدول عن مسلك المقاومة إلى غيره، ثم إخضاع المقاومة للمسلك الطارئ، هو الذي جعل المقاومة في غزّة مكلفة جدًّا، وجعلها في الضفّة صعبة للغاية، دون أن يعني هذا أن المقاومة في تاريخها البعيد نسبيًّا أو القريب، لم تقترف من الأخطاء ما أضعفها، أو فاقم من معاناة بيئتها الشعبية والمجتمعية.
يعني ذلك حين الحديث عن المقاومة المنظّمة أن تراعي قيادتها الظروف الموضوعية التي تجعل من القتال في جغرافيات صغيرة ومحصورة وفقيرة للظهير والتعزيز الخلفي؛ صعبًا أو مكلفًا، فتعتمد مسلكية تحافظ على قدرة بيئتها على الصمود والاستمرار في احتضان المقاومة.
ثم والحال قد صار على النحو الموصوف أعلاه، من جهة دخول طارئ، متمثل في اتفاقية أوسلو ونتائجها، ينبغي على من كان معنيًّا بالمقاومة، أن يفهم التغيّرات العميقة التي فرضها وجود هذا الطارئ، وإعادة تأسيس المقاومة بما يراعي تلك التغيّرات، والتفكير برؤية شمولية تلحظ الوطن كله بظروفه كلها وبالنحو الذي يحول دون التعارض في مصالح المقاومة والشعب بين بيئة جغرافية وأخرى داخل الوطن الواحد.
من الطبيعي في صراع معقد، أن يطول طريق المقاومة، ولأنها الأصل، لا يمكن مقارنتها بأي مسلك بديل يُزعم فيه أنه يوفّر الزمن والمعاناة، وفي هذه الطريق الطويل ونتيجة التفاوت الهائل في الممكنات لصالح العدوّ، لا بدّ وأن تُهزم المقاومة في جولات ومعارك، وأن تتعثر، وأن يطول سعيها، وهي بذلك انبثاق طبيعي عن الصراع أولاً، ثم هي بمحض وجودها، ونهوضها المستمر من بعد وقوعها، تحافظ على ذات الشعب ووعيه، ثم تحول دون تمدّد العدوّ، ولا يمكن العدول عنها إلى غيرها ما لم يكن البديل بالفعل قادرًا على تحقيق وعوده!
ضمن هذه الرؤية العامّة يمكن تقييم أي عمل مقاوم، منظّم، أو فرديّ، وبكل ما يتلبسه، وهو تقييم على أرضية المقاومة، لا على أرضية مناوئة.