في خطوة مفاجئة، أقرّ مجلس الأمن الدولي أواخر حزيران/ يونيو الماضي، استراتيجية لتقليص كبير في حجم البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في
دارفور (يوناميد)، بحيث يجري خفض العنصر العسكري بنسبة 44 في المئة والعنصر الشرطي بنسبة 30 في المئة.
وانطوت تلك الخطوة على دلالات كبيرة، أنها تعبّر عن تحولات محلية وإقليمية ودولية قادت إلى تغيير دراماتيكي في مواقف الفاعلين الدوليين تجاه النزاع في دارفور منذ اندلاعه.
وكما هو متوقع، تباينت ردود الفعل بين الفاعلين إزاء تقليص البعثة، والتي تعتبر ثاني أكبر بعثة حفظ سلام في العالم، وتأسست في 31 حزيران/ يونيو 2007، بموجب القرار (1769)، وتضم 17 ألف عنصر بميزانية سنوية بلغت بليون دولار سنويا.
وتقضي هذه الاستراتيجية التي تمت بالاتفاق بين الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، خطة لخفض التدريجي للبعثة على مرحلتين: في الأولى منهما سيتم سحب ثماني كتائب من جملة 16 كتيبة، بجانب خفض المكون المدني والشرطي، مع إغلاق 11 موقعا للبعثة بالإقليم، على أن يتم سحب ما تبقى من البعثة العام القادم.
منذ اندلاع النزاع المسلح في دارفور (آذار/ مارس 2003)، سرعان ما غدا أحد أجندة السياسية الدولية، إذ ساعدت البيئة الدولية آنذاك في خلق زخم عالمي حول تلك القضية المحلية؛ فالولايات المتحدة، تحت إدارة بوش، حيث سطوة تيار "المحافظين الجدد" الذين كانوا يخططون بحجة نشر الديموقراطية وحقوق الانسان والدفاع عن القيم الكونية عبر "الحروب الوقائية"، ووجدوا في دارفور نموذجا، ليتشكّل ما وُصف بأنه "أكبر حملة لدعم قضية أجنبية داخل واشنطن بعد حرب فيتنام": (تحالف أنقذوا دارفور)..
بيد أن غزو أفغانستان والعراق، قاد إلى إبطاء التحرك نحو التدخل دارفور، حيث بذلت جهود حثيثة نحو "تدخل إنساني" لحماية المدنيين من الأعمال الوحشية التي تجري، ونتيجة للتعبئة داخل واشنطن، وبعد أن نجحت مجموعات الضغط في تصوير النزاع هناك، على أنه "تطهير عرقي" يستوجب تدخلا إنسانيا من "العالم الحر" الذي تقوده واشنطن، واُدرجت القضية ضمن قائمة "الأهداف التالية" لدى المحافظين الجدد.
إن ما خلق هذا التعاطف الكبير مع قضية دارفور، وتكوين أكبر تحالف لمجموعات الضغط، هو بزوع توجه جديد، وتنامى وسط المجموعات المدافعة (advocacy groups) لوضع أجندة التصدي للتطوير العرقي والإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وغيرها من صنوف الأعمال الوحشية، في قلب أجندة صناعة القرار، حيث تمكّن دعاة هذا التوجه الجديد من الحصول على دعم قطاعات ورموز مؤثرة لدعم وتبني تلك الأجندة.
اعتبرت قضية دارفور حالة مثالية لتطبيق العُرف الدولي الجديد: "مسؤولية الحماية"، حيث وجدت اللوبيات في تلك القضية فرصة سانحة لممارسة ضغوط قوية بدغدغة الوازع الأخلاقي؛ لحمل المسؤولين والمجتمع الدولي على منع تكرار ما جرى في رواندا، عندما "تلكأ" المجتمع الدولي، متسببا في وقوع آخر مجازر الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في القرن العشرين في ذلك البلد.
كانت الدوائر الأمريكية- آنذاك تحت وطأة نفوذ "المحافظين الجدد"- مدفوعة لاستغلال دارفور للتدخل، في سياق شعار "الحرب العالمية على الإرهاب" التي شنتها إدارة بوش، كما جادل البروفيسور محمود ممداني (إنثربولوجي أوغندي من أصول هندية، وأحد أبرز خبراء الشؤون الإفريقية اليوم) في كتابه عن دارفور.
وجدت عدّة ظواهر أدت لتراجع فى طبيعة النزاع بدارفور وفقدانه تدريجيا الزخم الدولي، وصولا لتبني الدول الكبرى استراتيجية الحكومة
السودانية التي طرحتها في أواخر العام 2014، دون أن تسميها صراحة، والتي كانت قد دعت فيها إلى وضع استراتيجية خروج تدريجي للبعثة من دارفور. ومن تلك الظواهر: التغيير في الميزان العسكري، وتراجع الدعم المحلي، والأقلمة، واقتصاد الحرب..
وبشكل أكثر تحديدا، حدث مؤخرا تغيير كبير في طبيعة نزاع دارفور: من نزاع مرتفع الحِدة ينتج عنه آلاف القتلى والنازحين واللاجئين، وسلسلة من المواجهات العسكرية المستمرة تسفر عن معاناة كبيرة للمدنيين، مما يستوجب تبرير التدخلات الخارجية فيه، إلى نزاع منخفض الحدة تحولت فيه الأوضاع إلى حوادث "عادية"؛ وحاليا ينطلق البعض من فرضية أن صفحة الحرب قد طويت مع استعادة الحكومة زمام المبادرة، وترجيح كفة الميزان العسكري لصالحها، بعد عمليات ناحجة لمكافحة التمرد شنتها عبر عمليات "الصيف الحاسم" (2014، 2015، 2017)، فتلاشت بعدها قُدرة حركات التمرد الرئيسية على تحقيق نصر عسكري حاسم أو السيطرة على مدن أو مناطق حيوية والاحتفاظ بها، وممارسة ضغوط على الحكومة لتقديم تنازلات لصالحها لتسوية النزاع على النحو الذي تبناه المجتمع الدولي في مراحل سابقة.
وكان من مظاهر هذا التغيير، مغادرة حركات التمرد إلى دول الجوار (ليبيا وجنوب السودان)؛ ووثّقت تقارير دولية عديدة تورط حركات دارفور في الحروب الأهلية بالدول المجاورة للسودان، وأنّ عناصر هذه الحركات شكّلوا "سوقا لمقاتلين مرتزقة عابرة للحدود"، بحسب أحدث تلك التقارير، فضلا عن الانقسامات "الأميبية" التي غدت سمة مميزة لهذه الحركات.
كذلك أدت ظاهرة "أقلمة النزاع" - أي انخراط حركات التمرد وتورطها في النزاعات الإقليمية والصراعات الداخلية بدول الجوار، خاصة ليبيا وجنوب السودان، بدل التركيز على دارفور، إلى تغيير جذري في مواقف الدول الكبرى التي رأت في عجز الحركات المتمردة منذ نشوب النزاع عن تحقيق النصر أو الحفاظ على أجندة متماسكة أو البقاء كتنظيمات موحدة، بمثابة جرس إنذار لخطورة مغبة الاستمرار في دعمها، وبالتالي مالت هذه الدول لتفضيل الانخراط والتواصل مع الحكومة عوضا عن الرهان على المتمردين.
وأما ظاهرة "اقتصاد الحرب" لوحدها كفيلة بجعل الصراع في دارفور ذا طبيعة مختلفة ضمن أدبيات الصراع التقليدية، إذا ما جرى تحليل أبعاد وجوانب أنشطة هذا النمط الاقتصادي. "فاقتصاد الحرب" لا يقتصر هنا على الأشكال المألوفة في هذا الصدد، وإنما هناك جوانب أكثر تعقيدا وجديدة في طبيعتها: التهريب واسع النطاق والمنُظّم وشبكات اللجوء السياسي، والتعدين عن الذهب العابر للحدود، وتبدل ميدان الصراع، والقتال في الجوار؛ فالنزاع لا يكون منحصرا في الحيز الجغرافي الذي نشأ فيه - ولكنه يغدو عابرا للحدود، وهو ذو طبيعة إقليمية بشكل كبير، وبالتالي فإن التوصل لتسوية نهائية لهذا النزاع تكون بعيدة المنال!!
ومثلما كانت بعض الاتجاهات - في أدبيات مدارس دراسات النزاع والصراعات - تركز على فهم دور الشتات في تأجيج الحروب، كما هو في منطقة البحيرات العظمى، فإن التحوُّل الحاصل حاليا في طبيعة نزاع دارفور - مع تحول ليبيا إلى "مغنطيس" لجذب المرتزقة من كل حدب وصوب في المنطقة - قد يرحج احتمالات إعادة تأجيج المجموعات الدافورية الناشطة في ليبيا للنزاع مرة أخرى - رغم نجاح الحكومة نسبيا في سحق حركات التمرد تباعا - ولكن في الوقت نفسه، قد يؤدي لإضعاف النزاع هناك مع تبني هؤلاء أجندة خاصة ومنفصلة عن النزاع في دارفور، لا سيما في ظل تحوُّل ليبيا إلى "سوق للمقاتلين الأجانب" الذين يقدمون خدماتهم بمقابل مادي لمن يدفع أكثر من أطراف النزاع الليبي - الليبي. لذلك فإن هذا التحول يوفر معطيات جديدة للفهم المقارن للنزاعات، ويُثري أدبياتها.
وهذا يذكّرنا بأرحجية تنظيرات البروفيسور اليكس دوال، الخبير البريطاني في الشؤون السودانية، حول ما أسماه "سوق المساومات السياسية"، ومحاولاته تأسيس إطار نظري لفهم ديناميكية الحروب والنزاعات المسلحة والتمرد في السودان، فهو يرى أن حمل السلاح والتمرد ليس بالضرورة تقف وراءه عوامل أديدولوجية أو المطالب المشروعة والعادلة، بقدر ما يمثل للفاعلين هدفا لتحقيق وتعظيم المنافع الشخصية. من هنا تتفشى الانشقاقات وتتبدل الولاءات لدى عناصر التمرد من أجل الحصول على المزيد من المكاسب، ما يؤدي لإطالة أمد الحروب، ضمن عوامل معقدة أخرى بطبيعة الحال.
لذا، فلا غرو أن يتدفق المقاتلون من دارفور، سواء حركات تمرد أو مقاتلين وقادة منشقين، أو مقاتلين مسرحين نتيجة اتفاقات سلام سابقة، أو أعضاء حركات موقعة على اتفاقيات سلام مع الحكومة - لم تلبِ طموحاتهم وتوقعاتهم - صوب ليبيا من أجل الحصول على المال، وربما التسلح وإعادة بناء القوة العسكرية، ومع كل ذلك ربما يفضِّلون الاستمرار في هذه الوضعية على العودة لقتال الحكومة في دارفور مرة أخرى.
بالإضافة إلى ما سبق، أشار تقرير مطول بعنوان "مشكلة التبو: الدولة وانعدام الجنسية في مثلث تشاد والسودان وليبيا"، بشكل تفصيلي، لتلك المعطيات الجديدة ذات صلة بظواهر التحوُّل في النزاع في دارفور، والتي أوردناها آنفا؛ وصدر هذا التقريرحديثا، وبشكل مشترك، عن مراكز متخصصة في أبحاث النزاع، وهي: "مشروع مسح الأسلحة الصغيرة"، و"مشروع التقييم الأساسي للأمن البشري في السودان وجنوب السودان"، و"مشروع تقييم الأمن في شمال إفريقيا"، و"أبحاث التسلح في النزاع"، وأعدّه باحثان متخصصان لهما معرفة عميقة بالمنطقة، هما جيروم توبيانا وكلاوديو غوميز.
أخيرا، يمكن القول إن هذه الظواهر الجديدة في طبيعة النزاع في دارفور، قد وفرت المبررات الكافية أمام الفاعلين الدوليين لتبني تدابير لخفض تمويل عمليات السلام ليتم تطبيقها في دافور، كأول بعثة حفظ سلام تخضع لهذه التدابير التقشفية.