العلاقة التنظيمية:
من أوضح خصائص الحركات الإسلامية تلك العلاقة الخاصة التي تربط أبناء التنظيم أو الجماعة أو الطريقة، فهذه العلاقة بشقيها الأفقي (بين الأعضاء بعضهم البعض) وكذا الرأسي (بينهم وبين قيادتهم) تتميز عن غيرها من العلاقات المشابهة في الأطر الحزبية أو المؤسسية، حيث تشكل بتأثيرها المتبادل أحد أهم الديناميات الداخلية للعمل وتحافظ على فاعليته. ومن خلالها تنشأ الأعراف والقواعد - غير الرسمية - التي تحكم سلوكيات الأعضاء، وتساعد على الأداء بشكل منتظم. وربما يطلق عليها في مجالات أخرى "روح الفريق"، وهو ما يجعل ترابط أية جماعة من أهم محددات بنائها، ويبين قوة تماسكها وتقبل أعضائها للأهداف التي قامت من أجلها مع استعدادهم للعمل بجد على تحقيقها، خاصة عند ارتفاع حدة التهديدات أو المنافسة الخارجية. بل إن تلك العلاقة كانت عاملا مؤثرا في ترسيخ الشعور بالتمايز لدى بعض الحركات ومنتسبيها وترسيم الفواصل والحدود بين إسلاميتها ولاإسلامية غيرها - حسب رؤيتهم.
تنظيمات المشايخ:
هي تلك التنظيمات التي ترتكز بالأساس على الشيخ أو مجموعة من الشيوخ والعلماء؛ يتمحور حولهم التنظيم بشكل وجودي. فالصوفيون مثال بارز باعتبارهم مدارس متنوعة للتربية والسلوك تفرعت من بعضها البعض، لكنها تختلف بحسب مشاربها والبيئة الاجتماعية التي ظهرت فيها، فهي ليست مرجعية واحدة بل متعددة، حيث يلتقي الملتزمون فيها بصفة دورية في إطار حلقات الذكر، مما يوجد نمطا قويا من العلاقة بين المريدين الذين ينحدرون من مختلف طبقات وفئات السلم الاجتماعي، لكنها تظل غالبا في الإطار العام، مع بعض الروابط المالية كالهبات والنذور والهدايا. نعم يوجد نوع من التراتبية أو درجات المريدين في الطريقة، لكنه نمط علاقة يتسم بالأريحية دون وجود أوامر فوقية أو تنظيمية، إلا في حالات خاصة مما يجعلها لا ترقى لوصف تنظيم بالمعنى الحركي الشائع.
أما المدرسة السلفية فتعد أشد الأمثلة في التزامها بشيوخها والتمحور حولهم، أشخاصا وآراء. فالعلاقة بين معظم الأفراد سطحية، فيما عدا أصحاب المهنة الواحدة. والقول الفصل في كل مسألة هو ما قاله الشيخ الذي قد يعده البعض أعلم أهل الأرض!! ومن ثمّ فحدود النقاش بين المنتسبين هي في إطار تفسير ما قاله الشيخ، والقراءة ضمن ما قرره من منهج لا غيره، والاعتراض ممنوع، وتغلب على النقاشات الحدة، ولا يوجد بوجه عام مجال للرأي الآخر.
فلو حرّم الشيخ شيئا فهو حرام قطعا ملعون من أحلّه، وإذا عاد الشيخ فأحل ما حرم سابقا صار حلالا سائغا لا شبهة فيه، بل يثنى على الشيخ أنه رجّاع للحق يصوّب نفسه!! فانتقل التقديس من النص إلى شخص الشيخ، ليقع السلفية المعاصرة فيما انتقدوه على الصوفية من قبل، وصارت سلطة نص الحديث إلى رأي الشيخ وموقفه – من حيث دروا أم لا – حتى قال بعض المراقبين "لم نجد شيوخا في تاريخ مصر كلها قد حظوا بمثل ما قد حظي به شيوخ السلفية والوهابية من تقديس. بل قل مستريحا في تاريخ الإسلام كله، فما تنتقد أحدهم في شيء إلا وتجد سيوف الطعن والتفسيق مسلطة على عنقك ولا عجب". ولأن العلاقة بين الأفراد بعضهم البعض وبين شيوخهم قائمة على الحلال والحرام، فبديهي أن ينظر لكل من يختلف في هذا الإطار على أنه يحاول أن يحل ما حرم الله، وليس متأولا لرأي ربما كان له عند غير الشيخ مستند.
التنظيمات الحركية:
تقوم جماعة التبليغ والدعوة على الحركة المستمرة داخل المجتمع، ومخاطبة ما أمكن من شرائحه، ولذا نجدهم يخرجون في مجموعات صغيرة ضمن جولات دعوية محلية، أو رحلات خارجية يقضون فيها أياما وليالي مع بعضهم، وهذا - مما لا شك فيه - يزيد العلاقات البينية متانة.
يمكن القول بأن لجماعة التبليغ أصولا للعمل ونوعا من الأدبيات تعارفوا عليها وتوافقوا على تطبيقها في الحضر والسفر، وإن لم يسطروها فإنهم تواصوا بها وتوارثوها، منها طريقة ترتيب الخروج بأن يكون ثلاثة أيام في الشهر وأربعين يوما أو أربعة أشهر في السنة على الأقل، وإذا خرجوا للدعوة أمّروا عليهم أحدهم، لكن ليس لديهم مناصب محددة ولا وظائف دائمة. فلا نجد للشيخ تلك المكانة البارزة في الجماعة، وإن كانت العلاقة مع العلماء وأهل السبق والناشطين منهم لها طبيعة خاصة، لكنها تبقى أقرب ما تكون إلى جماعة وعظ وإرشاد تأثرت بالصوفية إلى درجة أكثر منها إلى جماعة منظمة.
يعتبر
الإخوان المسلمون أكبر جماعة تمتلك هيكلية وخطوطا تنظيمية واضحة، تحددها لائحة داخلية تحكم طبيعة عمل القيادة وضوابط العضوية. ويلتقي أفرادها بانتظام أسبوعيا في لقاءات تربوية تسمى الحلقة أو الأسرة، تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف لدى الأعضاء، هي: التعارف والتفاهم والتكافل. ومن ثم فإن العلاقات بين أعضاء تلك الأسرة الواحدة تتسم غالبا بالمتانة وتقوم على الثقة وحسن الظن والتعاون. ويتوفر في هذا المكوّن التنظيمي الأساسي حد من حرية التعبير عن الرأي فيما يتعلق بقرارات القيادة، كما يوجد نوع مقنن من الشورى بخلاف غيرها من الجماعات. ولذا تخصص الفقرة التالية لأمثلة تطبيقية تتصل بها خاصة وتنطبق على غيرها ممن يشاركها ذات الطبيعة.
أمثلة للإشكاليات التي تعتري العلاقات التنظيمية:
1. الكهنوت: وهي عدم معرفة الأفراد بالهيكل التنظيمي كاملا، ويتفهم هذا في ظل حقبة السرية والتضييق الأمني، لكنه صار منقصة في مرحلة العلانية لاحقا. وكان أفراد التنظيم يعرفون أسماء القيادات ورتبهم من الإعلام أو عقب اعتقالهم، حتى تندّر البعض أن الأمن يعرف عن الأفراد والقيادات مالا يعرفونه عن أنفسهم! ومن صور الكهنوت كذلك تعميم الخاص أو إطلاق المقيّد كأن يقال (قال الإخوة) دون تحديد من هؤلاء وما مستواهم التنظيمي ولا صلاحياتهم أو حيثيات اتخاذ القرار محل الحديث.
2. تعمية الطاعة المبصرة: رغم حديث أدبيات الجماعة المتكرر عن الطاعة القائمة على الفهم والشورى (المبصرة)، إلا أن كثيرا من قرارات القيادة لا تتسم بهذه الصفة، وحين تتم مناقشتها في بعض المستويات يفصل المسؤول في الأمر بقوله: "الإخوة يعرفون كل ما قيل"، أو "هل تظنون أن هذه الأفكار والحسابات لم تدور بخلد القيادة؟"، أو "لا شك أن هناك معلومات أخرى حجبتها عنّا القيادة وكانت وراء إصدار هكذا قرار"، أو "الصورة لدى القيادة كاملة وأكثر وضوحا". ولعل أكبر الأخطاء التنظيمية كان مرجعها إلى تلك الطاعة العمياء والثقة المطلقة؛ دون وجود هياكل شورية حقيقية تراجع تلك القرارات وتضبط الأداء وتراقب الصلاحيات.
3. تبرير الأخطاء أو التغاضي عنها: قد يلاحظ المراقب لو أن عضوا في أدنى مستوى داخل الإخوان ارتكب جرما ما أو خطأ تنظيميا، فإن أعلى المستويات يعلم بهذا الأمر، وربما يظل فعله هذا يلاحقه فيمنعه من الترقي بقية عمره. أما إذا حدث نفس الخطأ أو أشد منه فداحة ممن هم في مستوى قيادي أعلى، يتم أحيانا التبرير له وتأويل موقفه، ومن ثم التغاضي والتكتم عنه! وهذا قد يفسر صدمة جموع الإخوان في بعض قياداتهم السابقة بعد خروجهم من الجماعة وطعنهم فيها، وتعليق المقربين من دوائر القيادة العليا بأن أخطاءهم ومخالفاتهم كانت كثيرة ومعروفة على مدار عقود، ولكن الموقف "نصبر عليه عسى أن ينصح حاله"!!
4. الضرب تحت الحزام: مع عدم شيوع تلك الممارسة مثل سابقتها، إلا أنها تمثل نقطة بالغة الخطورة فيما يتعلق بتشويه بعض القيادات أو الأفراد المعارضين للسياسات العامة، سواء على مستوى الجماعة أو بعض قطاعاتها الأصغر في المدينة أو الحي. وفي هذه الحالة يتم تبليغ الأفراد بطريق مباشر أو غير مباشر أن فلانا عليه ملاحظات!! وغالبا لا توجد علاقة تنظيمية مباشرة بين هؤلاء المبلغين والشخص المعني بما يصعب معه التحقق من الدعوى أو السماع منه لا عنه. ومع وجود الثقة المفرطة في القيادة، ينتهي الأمر بتشويه فلان تدريجيا في عيون من حوله، بينما يغفل الجميع درس دَاوُدَ عليه السلام "إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة".
تبقى إشارة مهمة فيما يتعلق بهذه الملاحظات، وهي أنها تظل محدودة من حيث التطبيق العملي، ولا ندّعي أنها تمثل نمطا عاما للعلاقات البينية في الإخوان، والتي تعتبر من أمتن العلاقات وأفضلها في مختلف شرائح الحركات الإسلامية، إلا أن التأثير السلبي لتلك الإشكاليات كبير وله صدى أوسع لذا استحقت الإشارة إليها.
يتبع ...