لو أن
ترامب زار
إسرائيل مباشرة بعد فوزه لاستقبل كما يستقبل الأبطال. أما الآن، فقد بات ينظر إليه بعين الريبة، بل يخشى أنه قد يخل بالأمر الواقع الذي عمل
نتنياهو جاهدا على تكريسه.
في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر، عندما أظهرت النتائج الأولية أن دونالد ترامب في طريقه لكي يصبح الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأمريكية، وذلك على النقيض من كل التوقعات السابقة، أعطى الائتلاف الحاكم في إسرائيل الانطباع كما لو أنه كان يصحو من كابوس.
فقد انقضت ثمانية أعوام من الشجار المستمر مع رئيس أمريكي لم يكن يخفي عدم ارتياحه أخلاقيا لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي، ولسياسة
الاستيطان، وها هو يحل محله رئيس تكلم صراحة وعلانية عن خطر "التطرف الإسلامي" له من الأعوان من تنطبق عليهم المواصفات الصقورية ذاتها، لأولئك الذين ينتسبون إلى حزب البيت اليهودي المتطرف في إسرائيل.
وتصادف انتخاب ترامب مع تطورات أخرى داخلية وإقليمية ودولية بدت آثارها إيجابية بالنسبة لإسرائيل.
فثمة رئيس فلسطيني ضعيف، ومجتمع فلسطيني مرهق ومفتت، وعالم عربي مقسم، وجدت إسرائيل فيه حلفاء جدد هم أكثر تحمسا لخوض حرب مع إيران من إصرارهم على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي.
يضاف إلى ذلك تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي، فيما بدا إرهاصا على بداية نهاية الاتحاد، الذي ما فتئت إسرائيل ترمقه بعين الريبة.
لو أن ترامب زار إسرائيل في كانون الثاني/ يناير 2017، مباشرة بعد تنصيبه رئيسا، لاستقبل كما لو كان المسيح المخلص.
وانعكس ذلك خلال الزيارة المؤزرة التي قام بها رئيس الوزراء بنجامين نتنياهو إلى البيت الأبيض في الخامس عشر من شباط/ فبراير.
وحينما صرح نتنياهو أثناء المؤتمر الصحفي المشترك لهما بأنه "لا يوجد داعم للشعب اليهودي وللدولة اليهودية أعظم من الرئيس دونالد ترامب" لم يعتبر أحد ذلك من المبالغة في شيء.
سيصل ترامب إلى إسرائيل يوم الاثنين، ولكن إلى أجواء مختلفة تماما، ليس فقط لأنه يبدو ضعيفا نوعا ما بسبب ما واجهه من مشاكل خلال المائة وعشرين يوما الأولى له في البيت الأبيض، التي وصلت ذروتها بترشيح قاض خاص مكلف بالتحقيق في علاقة حملة ترامب الانتخابية بالروس.
وليس فقط لأن سياسته الدولية تبدو مرتبكة ومبهمة في أحسن أحوالها، ولكن لأن موقفه تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غدا فجأة غامضاً ولا يمكن الوثوق به أو الاعتماد عليه.
مزيد من الريبة والشك
كان الائتلاف الحاكم في إسرائيل، ونتنياهو ذاته، قد أعربا عن ثقتهما بأن ترامب سيقف إلى جانبهما.
أما الآن، فليسا واثقين إلى أي جانب يقف. ولعل مما لا يبشر بخير أنه قرر أن يبدأ زيارته إلى الشرق الأوسط بالمملكة العربية السعودية بدلاً من إسرائيل.
ثم ما لبثت الريبة أن زادت وتعزز الشك بفضل بعض التصريحات الصادرة مؤخرا عن مسؤولين أمريكيين، ومن أهمها ذلك التصريح المنسوب إلى دبلوماسي أمريكي مقيم في القدس قال فيه إن حائط المبكى يقع داخل الضفة الغربية.
لربما لم يكن أحد من المسؤولين الأمريكيين في إدارة باراك
أوباما ليجرؤ على التفوه بمثل هذه الكلمات.
ولا عجب إذن أن يصرح 56 في المئة فقط من الإسرائيليين المشاركين في استطلاع للرأي نُظم في الأسبوع الماضي، بأنهم يعتقدون أن ترامب مؤيد لإسرائيل مقابل 79 في المئة كان هذا رأيهم في كانون الثاني/ يناير الماضي قبيل تنصيبه رسميا، بما يمثل انخفاضاً مقداره 23 في المئة خلال أربعة شهور فقط.
نعم، إنها أربعة شهور انتقلت فيها إسرائيل من الشعور بالبهجة والنشوة إلى الشعور بالخوف والقلق إزاء إدارة أوباما.
كان أول من عبر عن مشاعر البهجة والانتشاء، حركة الاستيطان ومؤيدوها في إسرائيل، وعبر حينها وزير التعليم نفتالي بينيت، رئيس حزب البيت اليهودي، عن وجهة النظر السائدة في اليمين الإسرائيلي، حينما قال مرارا وتكرارا، إن انتخاب ترامب يعني وأد فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة.
ولم يسبق أن عبر ترامب عن أي تعاطف تجاه المعاناة الفلسطينية، ولم ير في احتلال الضفة الغربية خطأ من الناحية الأخلاقية، بل إن دافيد فريدمان، مستشاره للشؤون الإسرائيلية أثناء حملته الانتخابية الذي رشحه فيما بعد سفيرا للولايات المتحدة في تل أبيب كان قد جمع الأموال لدعم مدرسة دينية توجد داخل إحدى مستوطنات الضفة الغربية.
وكان بينيت ومعه بعض قادة اليمين في إسرائيل يأملون باستخلاص بعض المكاسب العملية من انتخاب ترامب، التي كان منها نقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس.
إلا أن الأهم من ذلك بالنسبة لهم، الاعتقاد بأن الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب لن تعارض، بل قد تؤيد ضمنا، ضم أجزاء معتبرة من الضفة الغربية إلى إسرائيل.
لطالما كان موضوع الضم على جدول أعمال بينيت وأمثاله، وحينما أصبح ترامب في البيت الأبيض رأوا الفرصة التاريخية تلوح أمامهم لتنفيذ تلك المخططات.
تبدد البهجة
سرعان ما تبددت مشاعر البهجة والنشوة بعد زيارة نتنياهو إلى واشنطن، وليس فقط لأن ترامب نفسه تراجع عن وعده بنقل السفارة إلى القدس بعد انتخابه مباشرة، وليس لأنه في المؤتمر الصحفي ذاته مع نتنياهو طلب من إسرائيل "التريث في موضوع المستوطنات إلى حين"، ولكن أيضا لأن نتنياهو نفسه لم يكن حريصا على انتقال السفارة إلى القدس.
بل والأهم من ذلك، أنه لم يكن متحمسا لعملية الضم.
هذا لا يعني أن نتنياهو لم يكن مسرورا لفوز ترامب في الانتخابات، فبعد أن ساد التوتر علاقاته بالرئيس السابق أوباما، ما من شك في أنه شعر بالارتياح لرؤية ترامب يتربع داخل البيت الأبيض.
إلا أن ما يرغب في تحقيقه هدفها نهائيا من رئاسة ترامب، يختلف عن الأهداف التي يسعى لتحقيقها بينيت وحلفاؤه.
كان الهدف الاستراتيجي لنتنياهو، ولم يزل، هو استمرار الوضع الحالي في الضفة الغربية وقطاع غزة كما هو، بمعني آخر استمرار التوسع البطيء والثابت للمستوطنات من جهة، وتفتيت المجتمع الفلسطيني من جهة أخرى.
عادة ما يطلق على الوضع الحالي خطأ مصطلح "الأمر الواقع"، إلا أن ما يراه نتنياهو هو عملية ديناميكية، مؤداها في نهاية المطاف قبول المجتمع الدولي، بل والفلسطينيين أنفسهم، بحكم إسرائيل لكل فلسطين التاريخية، التي يسمونها أرض إسرائيل، بما يسمح للفلسطينيين بإنشاء نوع من الحكم الذاتي، أي بحسب توصيف نتنياهو له: "شيء أقل من دولة".
ورأى نتنياهو في ترامب حليفا له في هذا المشروع السياسي.
ونظرا لأن ترامب عارض بشدة قرار أوباما الامتناع عن استخدام حق الفيتو للاعتراض على قرار مجلس الأمن الدولي بشأن المستوطنات غير القانونية في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، فقد اجتمع لديه من الأسباب ما شكل لديه القناعة بأن ترامب سيعمد في المستقبل إلى استخدام الفيتو لإسقاط أي قرارات مشابهة.
وجاء طلب ترامب "التريث" في موضوع الاستيطان مفاجئا لنتنياهو، فقد ظن أن بالإمكان إيجاد صيغة تسمح للمستوطنات بالتوسع، بينما يتجنب الإدانات الأمريكية المستمرة، كما كان عليه الحال أيام إدارة أوباما.
وتلقى نتنياهو شعار ترامب "أمريكا أولا" دونما تمحيص، وفهم منه أن "أمريكا أولا" يعني أن الشرق الأوسط يأتي في المرتبة الثانية، أو حتى في المرتبة الثالثة، أو في مرتبة أدنى من ذلك بكثير في قائمة أولويات ترامب.
كانت مثل هذه المقاربة مناسبة جدا لنتنياهو، وذلك أن أي تدخل في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من شأنه أن يبطئ عملية "التهويد" التي تجري داخل الضفة الغربية.
ولذلك يمكن تفهم لماذا تنتاب نتنياهو مشاعر الخوف والقلق من التحول الذي طرأ فجأة على ترامب، وجعله راغبا في التوصل إلى صفقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وبينما من الثابت أن ترامب لا يشعر بالتزام أخلاقي تجاه إنهاء الاحتلال الإسرائيلي كما كان عليه حال أوباما، ولو لفظيا على الأقل، فإن من الثابت أيضا أنه لا يشعر بارتباط عاطفي تجاه فكرة إسرائيل الكبرى، كما هو حال بعض الجمهوريين، خاصة من ينتسب منهم إلى الأصولية المسيحية.
ليس واضحا بعد ما هي الصفقة التي يفكر بها ترامب أو تجول بخاطره، ولعل الأقل وضوحا من ذلك، ما إذا كانت لديه أي خطط بهذا الشأن.
إلا أن حقيقة أنه بدأ جولته الشرق أوسطية بزيارة إلى الرياض قد يفهم منها أنه يرى الحل من منظور سعودي، وأن أولويته الأولى فيما يبدو هي تشكيل تحالف شرق أوسطي ضد إيران شبيه بحلف الناتو.
لا يعترض نتنياهو على مثل هذا الائتلاف، ولكنه يعلم بأنه حتى يصبح ناجزا فسوف يطلب السعوديون من ترامب أن يقوم على الأقل بجهد يسعى من خلاله للتوصل إلى اتفاق حول الموضوع الإسرائيلي الفلسطيني، ليس لأنهم مغرمون بالفلسطينيين، ولكن لأنهم بدون إبداء مثل هذا الاهتمام لن يحصلوا على الشرعية التي يحتاجونها لتشكيل مثل هذا الائتلاف.
ترامب.. صانع سلام؟
يخشى الفلسطينيون من أن السعوديين وترامب سيسعون لإجبارهم على استئناف المفاوضات مع إسرائيل دون تجميد للاستيطان، ودون التزام واضح بأن هذه المفاوضات ستؤدي في النهاية إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
قد يكونون محقين في ذلك، ولكنهم بوصفهم الطرف الأضعف بإمكانهم دوما اللجوء إلى الرفض.
أما نتنياهو، فيخشى أن يشترط عليه مقابل استئناف المفاوضات أن يقبل رسميا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وبرسم حدود هذه الدولة القادمة.
لا تكمن المشكلة فقط في أن مثل هذه الشروط تتعارض تماما مع معتقداته، بل إن من شأنها يقينا أن تؤدي إلى انهيار حكومته، حيث لن يتمكن بينيت من الاستمرار في مثل هذا الائتلاف الحكومي.
يبدو أن نتنياهو يحدوه الأمل في ألا يكون ترامب جادا في جهوده التي تستهدف التوصل إلى صفقة حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأنه سيقنع بإلقاء خطاب جميل في القدس، ويترك لنتنياهو المجال حتى يمضي قدما في تنفيذ ما لديه من مخططات.
ولكن، ثمة احتمال في أن يصدق ترامب كلماته التي صدرت عنه حينما قال إنه كرجل أعمال، أمامه أفضل الفرص لتحقيق السلام.
يصعب تصور كيف سيتسنى لترامب تحقيق ذلك السلام، ولكن ليس من الصعب رؤية كيف سيتضرر نتنياهو، وستضرر مواقف إسرائيل بسبب هذه العملية.
(عن صحيفة "ميدل إيست آي" البريطانية، مترجم خصيصا لـ"عربي21")