يكاد مصطلح الإرهاب يستحوذ اليوم على معجم الخطاب السياسي الدولي ويمثل الرافعة المركزية لكل تحركات القوى العظمى في العالم. فالحرب العالمية على الإرهاب هي الشعار الذي يجمّع للمرة الأولى في التاريخ بين كل الامبراطوريات الكبرى في العالم.
فروسيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين.. وكل الأنظمة العالمية تخوض اليوم ما تسميه الحرب على الإرهاب وهي الحرب التي عرفت انطلاقتها الحقيقية بعد مهاجمة برجي التجارة العالمية. لكن بعد حرب الخليج الثانية واحتلال العراق وقتل الملايين من شعبه وتشريد مئات الآلاف عاد مصطلح الإرهاب ليطفو على السطح ويستفرد بمساحة واسعة من الخطاب السياسي الدولي ويتحول إلى أولوية الأوليات في برامج الدول وفي حملاتهم الانتخابية.
ومع انطلاق ثورات الشعوب الأخيرة وخروج الملايين من الفقراء والمعطلين والمقموعين مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية عاد مصطلح الإرهاب ليتصدر المعجم السياسي والإعلامي من جديد مدفوعا بشراسة الثورة المضادة وبوحشية الدولة العميقة. فأشرس التنظيمات الإرهابية اليوم وهي تنظيم داعش قد نبت في قلب الربيع العربي وفي قلب الثورة السورية عندما حوّل النظام الدموي هناك ثورة الشعب السوري السلمية إلى أنهار من دم الذي لا زال يسيل هناك.
قام النظام القمعي بعسكرة الثورة التي كانت تدرك في وعيها ولاوعيها حجم التوحش والقابلية للقتل اللذين يستأثران بردود أفعال النظام الرسمي العربي بما هو قدرة لامحدودة على القتل والتنكيل والإبادة. لكن سلمية الثورات والتأكيد على هذه السلمية في تحركات الجماهير لم يشفعا لها لا عند النظام نفسه ولا عند عرابيه من القوى الدولية التي رأت في هذه الثورات تهديدا لهيمنتها على ثروات الأوطان المستعمرة.
يبقى السؤال الأساسي في الثورات العربية هو التالي: متى رفع المتظاهرون السلاح ؟ في ليبيا مثلا تسلحت الثورة عندما استجلب القذافي شركات المرتزقة والقتلة المأجورين للتنكيل بشعبه فكانت مجموعات الدفاع عن الأحياء والمنازل والقرى تتشكل دفعا لجرائم القذافي وكتائبه وذلك قبل أن تتدخل القوى الدولية بشكل مباشر قبيل سقوط الطاغية بقليل. أما في سوريا فقد كان قرار الحسم العسكرى مع الشارع المنتفض قد اتخذ مبكرا من قبل النظام وحليفة الأساسي ممثلا بالنظام الإيراني ومخلبه في لبنان بضوء روسي أخضر.
إن وعي الاستبداد العربي بما هو حكم قائم بالقوة المادية القاهرة هو وعي لا يمتلك من حلول لأزماته إلا الحل الذي يتناغم مع جوهره ومع الأسس التي قام عليها فالجواب يكون دائما من طبيعة الجوهر لا من خارجه.
لقد تأسس النظام الرسمي العربي عبر الانقلابات العسكرية أو شبه العسكرية في الغالب الأعم من حالاته وهو يمثل في الحقيقة نظاما للوكالة الاستعمارية الدولية هدفها المركزي منع الشعوب من النهضة التي يمكن أن تهدد سطوة الشركات الأجنبية على الثروات الطبيعية والبشرية لهذه الدول.
فالعنف والفساد هما الأساسان اللذان يقوم عليهما البناء الاستبدادي لأن العنف والقمع هما آلة الحاكم في السيطرة على المجتمع وعلى كل الخارجين عن رأي الزعيم الأوحد أما الفساد فهو السلوك الطبيعي واليومي لشبكات النهب التي قام من أجلها النظام الاستبدادي نفسه. إن التقارير الدولية حول التعذيب الممنهج في السجون العربية وفي مراكز الإيقاف والاستجواب تكاد تجمع على أن القمع والتنكيل والتطرف والإرهاب إنما هي مكونات أصيلة في جينات الطاغية العربي وفي النظام الحارس له.
بناء عليه نجح المستبد في خلق بيئة حاضنة للتطرف بكل أشكاله سواء ما تعلق منه بكل انواع الانحرافات الاجتماعية كالجريمة والبطالة وانتشار المخدرات والعزوف المدرسي ...أو ما تعلق منها بالتطرف الديني الذي انتج نزوع بعض الشباب إلى الانخراط في التنظيمات الإرهابية الطبيعية. نقول ذلك لنميزها عن التنظيمات الإرهابية الصناعية التي صنعتها أجهزة المخابرات لتحوّلها فيما بعد إلى أدوات جبارة هدفها قمع الثورات والتنكيل بها وإفقادها شرعيتها وتعاطف الناس معها.
ليس الإرهاب في الحقيقة إلا الابن الشرعي للاستبداد العربي وهو الذي حمله معه وخلقه خلقا عبر عقود من التسلط ومن إلغاء كرامة الانسان وحريته. وهو وليد النظام الرسمي العربي عبر آليتين أما الأولى فهي آلية طبيعية أنتجت جيلا محبطا ومثقلا بكل أنواع الهزائم والانكسارات وهو ما سهل نزوعه إلى العنف وغلبة التشدد عليه. كما أن نظام القبضة الأمنية التي أحكمها الطاغية العربي على شعبه مقابل تصحير أخلاقي وجدب قيمي قد خلقت الأرضية الملائمة لكل أنواع القابلية للعنف والتطرف والغلوّ.
أما الآلية الثانية فتتمثل في قدرة النظام بأجهزته الأمنية على صناعة المجموعات الإرهابية وتطويرها سواء ما كان منها إلى جانب النظام بشكل صريح مثل كل فرق الموت والميلشيات التي تقاتل المتظاهرين وتنكل بهم أو من خلال المجموعات التي نجح عبرها في اختراق جماعات المعارضة المسلحة.
لن تنجح الحرب العالمية على الإرهاب إن كانت صادقة في القضاء على هذه الظاهرة ما لم تذهب مباشرة نحو الجذور العميقة لشجرة الطغيان المتأصل في نظام الوكالة الاستعماري عندنا. لكن من جهة أخرى تبدو الحرب العالمية على الإرهاب شماعة استعمارية جديدة خَلقت شبحا متلونا صالحا لكل الأزمات والحروب ومبررا لكل الجرائم والمذابح التي يدفع الإنسان المسلم ثمنها يوم. فكيف يمكن أن يبرر الطاغية العربي ذبحه لشعبه دون الإرهاب ؟ وكيف يمكن أن يفسر المجرم الانقلابي انقلابه دون ذريعة مقاومة الإرهاب ؟ وكيف يمكن أن تفسر الامبراطوريات حروبها الامبراطورية دون شماعة الحرب الكونية الإرهاب؟