أشغلت حماس العالمَ في اليومين الماضيين، أولاً بوثيقتها السياسية الجديدة، ثم بانتخاباتها التي فاز فيها إسماعيل هنية رئيسًا جديدًا للحركة خلفًا لخالد مشعل، وأيًّا كان الرأي في الأمرين، فإن ما هو مؤكد، أن هذه الحركة المحاصرة في قطاع غزّة، والتي تواجه حملات سحق واجتثاث في الضفة الغربية، وتوصد في وجهها أبواب الإقليم والعالم، لم تزل بعد ثلاثين عامًا من الجهاد؛ موحدة، وقوية، ومؤثرة، رغم كل شيء.
لم تحظ حماس بهذه الأهمية، إلا لتوفرها على ثلاثة عناصر أساسية للقوة والفاعلية في الحالة الفلسطينية، وهي المكانة الجماهيرية، والقوة بتمثلاتها المتعددة والتي منها الحجم التنظيمي والمزاحمة الفعلية على الإدارة والقيادة والتمثيل، والتميز في الموقف السياسي المتمثل في فعل المقاومة ومدافعة الانحدار الذي جسّده أخيرًا اتفاق أوسلو وتبعاته.
ليست الفكرة –هنا- في انشغال العالم بشؤون حماس، ولكن في دلالة هذا الانشغال على دور الحركة وفعلها وحجمها. وإن كان ثمة قيمة مجرّدة لاستمرار حماس قوية وفاعلة، ففي قدرتها على الاستمرار كذلك بالرغم من الظروف القاهرة التي تحيط بها، وهذا الاعتبار المتجدد، يمكن أن يضاف إلى عناصر القوة الأساسية التي تميز حماس إذ اجتمعت بها.
أما القيمة الحقيقية لاستمرار حماس قوية وفاعلة، ففي طبيعة دورها، وفي قوتها وفاعليتها إن كانت في مسار صحيح. بالنظر إلى مسيرة حماس خلال ثلاثين عامًا، نجدها ظلت في مسارها ذاته، بالرغم من الاختيارات المشكلة التي كانت غالبًا من داخل المسار، أو لأجل خدمته، وبالرغم مما لا يمكن احتسابه على المسار من أخطاء محققة.
كانت حماس المحاولة الأكثر جدّية، على الأقل من جهة الفاعلية، لمواجهة وضع الانحطاط الذي دخلته الحركة الوطنية، وإن كان هذا الأمر لم يتضح تمامًا مع ميلاد حماس، لانغماس الفلسطينيين كلهم، بما في ذلك أصحاب مشروع التسوية، في الانتفاضة الأولى، فقد تجلّى فيما بعد، حين قيام السلطة، ثم من بعد فوزها في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة، وهو الفوز الذي لم يخرجها عن مسارها، ولا حتى إلى تخومه، بل ظلّت متنه، والاسم الرديف له، وبكلمة أخرى، جسّدت حماس مسار المقاومة، لا بتفردها، ولكن بحجمها وفاعليتها.
لا تتفرد حماس بساحة المقاومة الفلسطينية، لكنها ستكون أقل دورًا؛ لو كانت أصغر حجمًا وأضعف فعلاً، ثم إن هذا الدور سيكون أقل فاعلية دون إرادة المنافسة والقيادة والتمثيل لدى حماس، إن هذه الإرادة عادة ما تؤخذ على حماس، كونها ظلّت منفردة بفعلها النضالي والسياسي؛ خارج القيادة الموحدة للانتفاضة الأولى، وخارج منظمة التحرير، ثم أصرت على التمسك بمكانتها السياسية التي منحتها لها الانتخابات التشريعية قبل عشر سنوات، وهو ما انتهى بصيغة الانقسام الراهنة، لكن دون تلك الإرادة لم يكن لحماس أن تتمكن من بناء مكانتها ودورها.
بالرغم من ذلك، وبالرغم من كل النقاش الجدّي والمحترم، حول الاختيارات السياسية لحماس منذ العام 2006 وحتى اليوم، وبما آلت إليه من ظروف راهنة، فإن إرادة التمثيل والقيادة، وتمظهراتها الواقعية، هي التي جعلت للمقاومة، بواسطة حماس، قدرة على مزاحمة ومدافعة خط الانحطاط السياسي، وكرّست وجودًا صلبًا للمقاومة، يوفّر للفلسطينيين ممكنات إضافية حقيقية سوى ممكنات العدم التي يطرحها المشروع المُعبّر عنه بأوسلو وتبعاته لمواجهة الاحتلال، ويوفّر لهم –أي وجود المقاومة الصلب- رافعة تعبويه تضايق أوضاع التجريف الوطني الناجمة عن سياسات السلطة التي تفرض على الفلسطينيين ثقافة ونمط حياة لا يتصلان بظرفهم الاستعماري.
يمكن قول الكثير في انتقاد خيارات حماس السياسية –منذ 2006 وإلى اليوم- وما انبى عليها من خطاب سياسي اضطراري أخذ يتحول إلى فكر سياسي بمرور الوقت، لكن الجانب الآخر من تلك الخيارات، أن حماس بالفعل، حالت دون أن يكون صندوق الانتخابات غطاء لتصفية القضية الفلسطينية، ولو في حينه على الأقل، وحفظت -لسنوات ما زالت قائمة- سلاح المقاومة وثقافتها وإن في قطاع غزة فحسب.
هذا الإنجاز لحماس، ومع كل ما تلبسه من أخطاء ومخاطر وتبعات سلبية مما يوجب نقاشًا أوسع، هو الذي أتاح للمقاومة أن تجعل من نفسها معادلاً قويًّا في مقابل السلطة الفلسطينية وسياساتها، ولولا ذلك لكانت المقاومة، على ما كانت عليه منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي حتى بداية انتفاضة الأقصى، ضعيفة وهامشية التأثير السياسي، بل وأسوأ مع تغير الثقافة ونمط الحياة الذي دفعت نحوه السلطة الفلسطينية.
وكما سلف، لا تتفرد حماس بساحة المقاومة، وثمة حركات مقاومة أخرى خالفت حماس في خياراتها السياسية، ومع ذلك كانت أكثر من استفاد من نتائج سياسات حماس حينما حمت الأخيرة قطاع غزة قاعدة للمقاومة، وأتاحت لفصائل المقاومة أن تراكم قدراتها وخبراتها، ولم يكن لتلك الفصائل التي تفتقر إلى عوامل قوة حماس، أي الحجم والدور، أن تبني لنفسها ما وفرته لها حماس، أي الأرض والبيئة!
ليست الفكرة هنا، الحكم بصوابية تلك الخيارات، فتبعاتها السلبية أكبر من أن يمرّ عليها بهذه السرعة، ولكن الفكرة في كون حماس من الجهة الأخرى حمت المقاومة فعلاً بتلك الخيارات، ويكفي أنها خاضت أشرس وأعنف ملاحمها الجهادية من بعد فوزها بالانتخابات التشريعية.
إن "التبشير" بانحراف حماس واستنساخها لتجربة فتح قديم، منذ أن كانت الحركة، حينما –وفي نمط عجيب من التفكير- جُعلت طبيعتها الإخوانية سببًا لنفي صفة المقاومة عنها، ثم بقي الاتهام يتكرر منذ أن دخلت الانتخابات التشريعية، ولكنها طوال الثلاثين عامًا التي مرّت بقيت أكثر الفصائل الفلسطينية فعلاً مقاومًا، ولم تنحرف عن مسارها، دون أن يخلو خطابها مما يمكن أن يُنتقد وبشدّة.
المقصود أن الفاعلية على الأرض، وطبيعة الحركة وتوازناتها، لا تقل أهمية، إن لم تكن أهم من النصوص والأدبيات والوثائق التأسيسية، وهو ما ثبت حتى اللحظة في مسيرة حماس الطويلة، فالوثيقة الأخيرة -والتي سبق لي انتقاد البند 20 فيها في مقالة منشورة في موقع قناة الجزيرة قبل إصدار الوثيقة- ليست كافية للتبشير بسقوط حماس، أو للتعاطي معها بنفس المتعالي على المتن الكامل لحماس، ودون أي اعتبار لمفاعيل القوة والدور والتوازنات والطبائع في الحركة.
المؤكد، أنه ليس ثمة مصلحة، لحريص على المقاومة وفلسطين، في تيئيس الناس من حماس وتخييب أملهم فيها وتبشيرهم بسقوطها، فهذا المسلك -الذي لا ينسجم مع أي حرص مزعوم على المقاومة- شيء، وانتقاد حماس المنحاز فعلاً إلى أصولها وثوابتها ومسارها والمقدر لتضحياتها وثباتها الطويل والسعي المستمر لتصحيح مسارها شيء آخر.