قضايا وآراء

الشعب يريد بناء النظام

1300x600
الثورة آتية لا ريب فيها، وأمارة اقترابها تفشي الظلم وتعمق الشعور بالقهر في نفوس المواطنين واقتطاع ضريبة الفساد وسوء الإدارة من حاجاتهم الأساسية، فإذا عم الظلم وظهر الفساد وغابت آليات المراجعة والتصحيح في بنية النظام أضحت الثورة مسألة وقت، والثورة هنا فعل انفجاري عشوائي غير خاضع للرصد وغير قابل للاحتواء، هي فعل هدمي لبناء فاسد لم يصن كرامة الإنسان ولم يقم العدل ولم يشعر المواطن بقيمة حياته فلم يعد يبالي بالاندفاع نحو الموت بعد أن فقد معنى الحياة والشعور بها.

الثورة من هذا المنظار فعل يائس لا يخطط صانعوها لما بعدها ولا يبالون بحسابات ربح أو خسارة، إنما يلجأون إليها اضطراراً بعد أن غدا استمرار الوضع الراهن مستحيلاً، وبعد أن غدت فاتورة الحياة باهظةً لا تطاق.

تزيل الثورة عائقا أساسيا من طريق البناء والنهضة، وتخلق فرصةً تاريخيةً للفعل الحضاري، لكنها وحدها لا تكفي لأن الحضارة تقوم بالرؤية الواعية لا بالاندفاعة العاطفية، وحين تكون الثورة فعلاً غاضباً وحسب فإنه يسهل اختراقها وركوب موجتها من قبل شبكات المصالح في الداخل والقوى الأجنبية من الخارج وإعادة توجيه مسارها بعيداً عن إرادة الشعب ومصلحة الوطن، وحين يصحو المواطن بعد ذهاب السكرة ومجيء الفكرة فإنه يجد نفسه أمام نظام حكم جديد جاثم على صدره لا يختلف جوهرياً عن نظام الحكم الذي أسقطه، فيغدو أمام خيارين؛ إما ابتلع الإهانة هروباً من مرارة الاعتراف بالفشل وغض البصر عن تجاوزات النظام الجديد وأوهم نفسه بإنجازات الثورة، أو اعترف سراً في نفسه بأنه قد خدع وسرقت منه ثورته فيبدأ بمراكمة مشاعر الغضب من جديد في انتظار لحظة انفجار أخرى تأتي بها الأيام.

هكذا تدخل الشعوب في دوامات مكررة تستنزف تاريخها وطاقاتها وتطيل أمد رقادها وتحرمها من فرصة الانطلاق الحضاري، وتصبح الثورات مُسكِّناً لحظياً يلجأ الناس إليها بقصد تسكين اضطراب ضمائرهم وتوفيق علاقتهم مع الواقع المعاش ليعودوا سريعاً إلى حياة الراحة والاستقرار، لا بدافع الإرادة القوية لإحداث تغيير جذري يؤسس لحقبة تاريخية جديدة قوامها العمل الجاد في سبيل ترسيخ العدل والرخاء.

في هذه الحالات تسقط الثورات وجوهاً وتأتي بوجوه جديدة، وينزع المُلك من أحزاب ويوهب لأحزاب أخرى، لكن بنية النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تظل راسخةً لا تتأثر، وعوامل التخلف التي أنتجت الأزمات تبقى كامنةً في البنية الفكرية العميقة للمجتمع مما يجعل المناخ ملائماً لإعادة تكرار ذات الأزمات، وتهدر الشعوب أعمارها في التجربة والخطأ وتظن أن النحس قد أصابها أو أن المؤامرة أكبر من قدراتها، وهي لا تدري أنها لم تضع أيديها بعد على موضع الخلل وأن كل موجاتها الثورية لم تكن أكثر من كمادات تخفيض للحرارة وأن إنجازاتها لم تزد عن تجميل وجه النظام دون معالجة أسس الخلل وحاضنته الثقافية.

الثورة ليست هدفاً، بل هي النتيجة الاضطرارية التي يقود إليها تعسر ولادة مجتمع العدل والكرامة، وهي لا تحتاج من المقومات أكثر من تراكم شعور القهر والإحباط، والنظام بظلمه الممنهج وبنيته الفاسدة وسياساته الغبية هو أكفأ من يضطلع بمهمة تغذية الشعور الثوري في نفوس الجماهير.

وما دام النظام قد كفانا هذه المهمة فإن الجدير بالعقلاء وحملة لواء الإصلاح أن يلتفتوا إلى مهمة أخرى أكثر أولويةً وهي رسم ملامح ما بعد الثورة ووضع أسس العدل والحكم الرشيد التي تحول دون تكرار ذات أخطاء المرحلة الراهنة، وتهيئ للثورة يوم أن تحين ساعة ميلادها الطبيعية أن تكون أكثر من مجرد انفجار غاضب، وأن تؤسس لحقبة جديدة تعلن قطيعةً ثقافيةً واجتماعيةً وفكريةً مع الاستبداد وتضع قواعد مجتمع رشيد يقوم على العلم والعدل والتنمية.

هل نحن في حاجة إلى الرؤية قبل الثورة؟

هناك من يرى أن أي حديث في الخطط والرؤى قبل إسقاط نظام الاستبداد هو ترف من الحديث، وأنه لا صوت يعلو اليوم فوق صوت التحشيد وتحريض الجماهير، فإذا سقط النظام كان لكل حدث حديث!

الواقع صارخ الدلالة في الرد على هذه الشبهة؛ لقد سقطت الأنظمة فعليا في أربع دول عربية عام 2011، ثم لم تنجح أي من هذه الدول في إقامة أنظمة ديمقراطية راسخة وفي إطلاق عملية البناء والنهضة، ولا تزال ثلاث منها ممزقةً في حالة احتراب ودماء واستبداد إلى اليوم، أما الرابعة تونس والتي لا يزال المتفائلون يتمسكون بشعاع الأمل الأخير في تجربتها فإن من الصعب الحديث بأنها شهدت تغييراً جذرياً إذ عاد إلى الحكم ذات النظام القديم مع بعض مساحيق التجميل، ولا يزال من المبكر الحكم بأن تحولاً اجتماعياً راسخاً حدث في تونس من شأنه أن يحول دون انتكاس الديمقراطية.

حدثت الثورات فعلا عام 2011 لكنها كانت انفجاراً غاضباً لمشاعر القهر واليأس دون أن تكون مرفقةً برؤية واضحة متبناة من قطاع عريض من الجمهور لشكل المجتمع والدولة الذي سيعقب اللحظة الثورية، وقد أدى غياب الرؤية إلى إيجاد حالة من الفراغ السياسي والاجتماعي، وفي مواجهة واقع جديد لا يملك الناس رؤيةً في التعامل معه أعاد المجتمع إنتاج ذات القيم السلبية لمرحلة ما قبل الثورة، لأن الوضع الطبيعي هو أن يعيد المجتمع تكرار نفسه وأن ينجذب إلى عوامل التخلف المتمكنة فيه ما لم تكن هناك قوة معاكسة تطلقه باتجاه قيم جديدة. ورأينا تجليات هذه الانتكاسة في تفرق القوى الثورية وتنازعهم دون إدراك خطورة المرحلة، وفي هامشية اهتمامات الثوار بدل توظيف النفس الثوري في عملية نهضة شاملة تطال كافة مرافق المجتمع التعليمية والثقافية والاقتصادية و التنموية، ثم جاءت قوى الثورة المضادة لتقطف الثمرة ناضجةً بعد أن أثبت الثوار أنهم لا يملكون رؤيةً جادةً وأنهم لا يمثلون بديلاً قادراً على تنفيذ برامج إصلاحية تحقق العدالة والتنمية.

الشعوب لا تتغير بضربة عصا سحرية، والرهان على إصلاح العادات والتقاليد المجتمعية الراسخة في مرحلة ما بعد إسقاط الأنظمة هو ترحيل للمشكلة، فالمواطن الذي تعود على ثقافة الأخذ بدل العطاء وعلى الاهتمام بمصلحته الخاصة على حساب المصلحة العامة وعلى تكديس الثروات دون مبالاة بحقوق الفقراء وعلى سلوك طرق الرشوة والواسطة والمحسوبية وعلى عدم احترام الوقت والنظام والقانون وعلى ثقافة الإقصاء لا المشاركة، لا يمكن أن يتحرر من كل هذه الأمراض بمجرد سقوط الطبقة الحاكمة، بل إن هذه المظاهر المتفشية في مجتمعاتنا هي أصل الداء، والنظام السياسي ليس سوى تجل لهذه الأمراض التي تنخر عميقاً في بنية المجتمع.

صياغة رؤىً تفصيلية لتحقيق العدالة الاجتماعية وإصلاح مؤسسات الدولة قبل الثورة ضروري لأنه يمنح الثورة معنىً أخلاقياً فلا يصبح إسقاط النظام هدفاً لذاته، إنما الهدف هو الإصلاح، فإن كان في النظام بقية عقل و أعلن انحيازه تحت ضغط الجماهير ووعيهم إلى البرامج الإصلاحية فقد كفى الله المؤمنين القتال وانتفى مبرر الثورة، وإن أصر النظام على المعاندة فقد أقيمت الحجة عليه لأنه غدا في مواجهة مطالب أخلاقية مشروعة لا في مواجهة كيانات سياسية معارضة، كما أن الرؤية القبلية تنقل الثورة من مجرد كونها فعلاً هدميا إلى مشروع بنائي، وتصبح الفرصة أكبر لتفتيت الكتلة المناصرة للنظام واستمالة أعداد كبيرة من مؤيديه، لأن الثورة هنا مشروع أخلاقي ينادي بالقيم المجردة ولا ينادي بهدم الأشخاص والكيانات. 

وجود الرؤية يحشد الجماهير على أسس واضحة من الوعي، ويمنح الثورة قاعدةً جماهيريةً عريضةً من الفقراء والمهمشين الذين تتبنى الثورة مطالبهم وتطرح برامج تفصيليةً لإنصافهم ورد الحقوق إليهم قبل الانطلاق ولا تكتفي بمجرد شعارات جوفاء للتعبئة اللحظية، كما أن وضوح الرؤية يبصر الثوار بخطواتهم ويحصنهم من الخديعة وسرقة الثورة، ويحمي الدولة من خطر الفوضى والفراغ بعد سقوط النظام، كما يحميها من خطر قيام نظام استبدادي جديد في حال لم تكن قضية العدالة والإصلاح مبلورةً وواضحة المعالم قبل الانطلاق.

في القرآن الكريم يستعجل بنو إسرائيل هلاك فرعون فيرد عليهم النبي موسى عليه الصلاة والسلام: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون".

لم تكن المشكلة في زوال فرعون، بل من سيخلف فرعون وكيف سيخلفه؟