قضايا وآراء

الإنسانُ في القرآنِ: العبودية لله ومفهومُ الحريَّة (20)

يرسم القرآن صورة حسيّة لأغلال النفسِ وكيف تثقل حركة صاحبِها- الأناضول
يبيِّن القرآنُ أنَّ غاية خلقِ الإنسانِ أن يعبد الله: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون"ِ (الذَّاريات: 56)، لكنَّ فريقاً من النَّاسِ يستنكفون أن يكونَ أحدهم عبداً للهِ، فيقول: لماذا أقيم حياتي على أساسِ العبوديَّةِ! أريد أن أكون حرَّاً، وأن أعيش وأتمتَّعَ بلا قيودٍ!

لكنْ، هل حقَّاً من يرفض العبوديَّةَ للهِ يصيرُ حرَّاً؟

إنَّ طبيعةَ الحياةِ وطبيعةَ خلقِ الإنسانِ تفرض عليه أغلالاً وجوديَّةً لا يستطيعُ الفكَاكَ منها، فالإنسانُ يُفرضُ عليه مكان الولادةِ وزمانها، ويُفرض عليه الوالدانِ واللغة التي يتكلَّم بها، ويُفرض عليه لون بشرتِه وخصائص جسمِه ويفرض عليه جنسه وعرقه وقومه، وهو لا يستطيع أن يتحرَّر من احتياجاته الفسيولوجيَّةِ، وإذا قهره المرضُ أقعدَه، وهو مقهورٌ بقوانين الطبيعةِ فلا يملك جناحين ليطير في الهواءِ ولا يملك القدرة على الغوصِ في الماءِ ولا يستطيع أن يخرق الأرض أو أن يبلغ الجبالَ طولاً، ولا يستطيع أن يقفزَ من علوٍّ شاهقٍ فلا تتحطَّم عظامه أو أن يلقي نفسه في النَّار فلا يحترق! ثمَّ إنَّه بعد كلِّ ذلك مقهورٌ بالضعفِ والشيخوخةِ والموت.

ولعلَّ هذه الأغلال الوجوديَّة التي تُحكِم وثاق خلقِ الإنسانِ هي ما يشير إليه القرآنُ في قولِه: "نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ" (الإنسان: 28).

سواءً آمن الإنسان بالإلهِ أو كفرَ فإنَّه لن يجادل أنَّه مقهورٌ تحت قوى الطبيعةِ وقوانينِها الحتميَّة وأنَّ قوى الطبيعة تفرض عليه الخضوعَ لشروطِها.

"اللهُ" في التصوُّرِ الإيمانيِّ هو القوَّة المطلقة التي تسبِّب الأسبابَ وتقدِّرُ القوانين، لذلك فإنَّ مفهوم "العبوديَّة للهِ" أقربُ إلى العقلِ من الدعوة العبثيَّة إلى الإفلاتِ من كلِّ القيودِ، إذ إنَّ من المستحيل أن يفلت الإنسانُ من شروطِ الوجودِ التي لم يكن له دورٌ في خلقِها وتقديرِها.

العبوديَّة للهِ تعني أن يسلِّم الإنسان لمن بيده مقاليدُ كلِّ شيءٍ، وأن يتناغم مع قوانين الوجودِ. عبادة الله تعني أن يتوجه الإنسان بقلبه إلى من يملك القوة والأسباب، لأنَّه في حاجةٍ دائمةٍ إليه، فهناك احتمالاتٌ لا نهائية في كلِّ لحظةٍ من المصائب وزوال النِّعم وتبدل الأحوال تُبقي الإنسان في افتقار وجوديٍّ إلى ركنٍ شديدٍ يؤوي إليه:

- "إيَّاكَ نعبدُ وإيَّاكَ نستعين".

- "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" (الأنعام: 18).

إذا ادَّعى أحدهم أنه يريد الإفلات من كلِّ حدٍّ فإنَّه بذلك يعاند قوى الكونِ التي لا يملك لها دفعاً، وهذا الموقف يعبِّر عن كِبرٍ لن يبلغَه: "إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" (غافر: 56).

العبوديَّة للهِ مفهومٌ وجوديٌّ مغروسٌ في فطرةِ الإنسانِ، والذين يقولون بألسنتهم إنَّهم يريدون حياةً خاليةً من أيِّ قيدٍ، فإنَّهم في حقيقة أمرهم لا يستطيعون التحرر من أسر الطبيعة وقوانين الحياةِ القاهرةِ، وهذه القوانين في التصور الإيماني ليست سوى تجلياتِ قهرِ اللهِ:

- "فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعا أَوْ كَرْها قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" (فُصِّلت: 11).

- "وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ" (الأعراف: 197).

لكنَّ اللهَ استخلف الإنسانَ في هذه الأرض ليبلوه، ومهمَّةُ الابتلاء تقتضي أن يُمنحَ هذا الإنسانُ مساحةً من الحريَّة إلى أجلٍ مسمّى: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا".

في هذه المساحةِ يحدث التمايزُ بينَ من يتذكَّر ضعفه وافتقاره إلى الله فيستسلم له ويعبده، وبين من ينسى خلقه ويغفل فيطغى ويستكبر ويتعدَّى حدودَه، ويحسب ألَّن يقدِر عليه أحدٌ.

والفرقُ بين الفريقين هو الفرقُ بين العقلِ والجهلِ، فالفريقُ الأولُ يعمل بمقتضى افتقارِه واحتياجِه الدائمِ إلى الإعانةِ والمددِ والملاذِ، بينما الفريق الثاني ينسى حقيقةَ فقرِه وضعفِه، ويتمرَّد على من يمدُّه بكلِّ لحظةِ حياةٍ ونفَسٍ ورزقٍ وقوَّةٍ: "أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُم" (الرَّعد: 33).

يخاطب القرآنُ هذا الفريقَ الثَّاني: "وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ" وهو تذكيرٌ بالحقيقةِ الوجوديَّة السَّاطعةِ التي يغفلون عنها، فمهما أعجب أحدُهم بنفسِه وقدراتِه: "لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي"، "إنَّما أوتيته على علمٍ عندي". وظنَّ أنَّه استغنى: "كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى" (العلق: 6-7).

فإنَّه لن يخرج من حدود عجزه الوجوديِّ الدائمِ، وفي أيِّ لحظةٍ قد تزول كلُّ مظاهر القوةِ التي اغترَّ بها: "وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرا" (الكهف: 43).

لكنَّ أولئك الذين يشمئزُّون من دعوتِهم إلى "عبادةِ اللهِ القهَّارِ" قد اختزلوا معنى الحريَّةِ في أن يلبِّي الإنسان ما تهواه نفسُه من شهواتٍ، فالحريَّة في فهمِهم تعني أن يفلت الإنسانُ من أيِّ ضوابطَ ومحرَّماتٍ.

هذا الاختزال بالغ الإسفافِ لأنَّ الإنسان قبل أن يدَّعيَ أنَّ من حقِّه أن يفعلَ ما تهواه نفسُه دون أن يحاسبه أحدٌ، فإنَّ عليه أن يتأكَّد أنَّه قويٌّ مستغنٍ في نفسِه لا يحتاجُ إلى العونِ والمددِ والرِّزقِ من أحدٍ!

عبَّر عن هذا المعنى ببساطةٍ وبلاغةٍ إبراهيم بن أدهم رحمه الله حين وعظَ رجلاً أسرفَ على نفسِه في المعاصي فقال: تستطيع أن تعصي الله بشروطٍ منها: لا تأكل من رزق الله، ولا تسكن في أرض الله، واذهب في مكانٍ لا يراك فيه الله.

هل حقَّا أنَّ إفلاتَ الإنسانِ من ضوابطِ الحرامِ يجعله حرَّاً؟

مرَّةً ثانيةً، فإنَّ طبيعةَ الحياةِ تناقض معنى الانفلات العبثيِّ لفعلِ كلِّ ما تهواه النفسُ، فإذا كان الإنسان لا يستطيع وجوديَّا أن يناقض قوانين الطبيعةِ المفروضةِ عليه، فإنَّ الناس قد عرفوا بفطرتِهم أنَّهم لا يمكن أن يقيموا اجتماعَهم البشريَّ دون قيودٍ أخلاقيَّةٍ.

وهنا وُلِدت فكرة القانونِ التي تبيِّن حدودَ حركةِ الإنسانِ، ففي كلِّ اجتماعٍ بشريٍّ، بدائيّا كان أو حضريّا، هناك مجموعةٌ من المناهي الأخلاقيَّةِ التي تكبح جماحَ الأفراد وتميِّز الفرقَ بين ما يحبُّون أن يفعلوه وبين ما يجب ألَّا يفعلوه.

والذين يُمنُّون أنفسهم بحياةٍ من المتعةِ واللذة لا تنقضي إن خرجوا عن حدودِ اللهِ وتمرَّدوا على العبوديَّة له، فإنَّهم يقعون في عبوديَّةٍ موثقةِ الأغلالِ لشهوات أنفسهم وأهوائها.

"عبوديَّةُ الهوى" ليست تعبيراً مجازيَّا، بل هي أغلالٌ حقيقيَّةٌ تُوثقُ إرادةَ الإنسانِ وتتحكَّم في أفعالِه وإذا تمكنت هذه العبودية من نفسِه صار رهينةً لا يستطيع فكاكاً من قيدِها كما نعلم من مثال الإدمانِ وشدَّة التعلُّق.

نرى في حالات الإدمانِ من يشكو أنَّ حياتَه دُمِّرت بسببِ الإدمان، فإن قلت له: ما دمت قد علمتَ بأخطارِه وأضرارِه فلم لا تتجنَّبُه؟ أجابك أنَّه غير قادرٍ على الإقلاع!

وهذا ما يعني أنَّ قوتين متصارعتين داخل نفس الإنسانِ، أو بتعبيرِ القرآنِ "شركاء متشاكسون"، فعقله يعلمُ الأضرارَ لكنَّ شدَّة تمكُّنِ الإدمانِ من نفسِه قد استعبدَ إرادتَه.

فلينظر أحدهم في حياتِه إذا تحكَّم فيه حبُّ المالِ والنساءِ والشهرةِ والمنصبِ! إنَّ التعلُّقَ بهذه المعبوداتِ يخرج الإنسان من القدرةِ على التفكير العقليِّ الصَّافي ويُخضِع قلبَه وإرادتَه لأحكامِ هذه المعبوداتِ وسلطتِها.

وكلُّ ما تعلَّق به قلبُ الإنسانِ وأحبَّه حبَّاً شديداً صار عبداً مملوكاً له. وقد سمَّى القرآنُ هذه المتعلقات "شركاء من دونِ الله".

يرسِم القرآنُ صورةً حسيَّةً بليغةً لأغلالِ النفسِ وكيف تثقل حركة صاحبِها ونشاطه: ".. اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ".

الإدمانُ هو حالةٌ عامَّةٌ تصيبُ النَّفسَ بالخضوعِ إلى العاداتِ فيثقلُ عليها تحريرُ إرادتِها، والقرآنُ يظهر هذه الصفةَ في أحوال الكافرين والمنافقين، دون المؤمنين لأنَّ المؤمنَ في التصوُّرِ القرآنيِّ قويُّ الإرادة:  ".. كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا" (النِّساء: 91).

ثمَّ تتجسَّدُ هذه الحالةُ النفسيَّةُ في هيئةِ حالةٍ محسوسةٍ في النَّارِ يوم القيامةِ، لأنَّ جزاء الآخرةِ ليس سوى تجلٍّ لأحوالِ النفوس في الدنيا: "كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا" (السَّجدة: 20).

رسالةُ الدِّين هي أن يبني المؤمنَ الذي ينتصرُ على ميولِ نفسِه ورغباتِها، وهذا هو جوهر العبوديَّةِ لله:

"قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التَّوبة: 24).

ونحن نرى إذا خلا قلبُ الإنسانِ من التعلُّق كان نشيطاً مجتمعاً ينفرُ بجدٍّ إلى معالي الأمورِ، بينما إذا تملَّك قلبَه هوىً تشتَّت اجتماعه وتكدَّر صفاء عقلِه وفتر عزمُه وتثاقلَ سعيُه، وهل العبوديَّة غير هذا!

الإيمان يحرِّر صاحبَه من الخوفِ والذلِّ ومهابة الخلقِ ويملأ نفسه شجاعةً وإقداماً لأنَّ من امتلأ قلبُه بحضورِ الله علِم أنَّ كلَّ من هو دون الله لا يملك له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا رزقاً: "وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزا" (مريم: 81).

ونرى مصداق هذه الحريَّة النفسيَّة عبر التاريخِ، إذ إنَّ أشدَّ المقاتلين شجاعةً في كلِّ العصورِ والأممِ هم الذين اتصلت قلوبُهم باللهِ وتجرَّدوا من التعلُّقِ بالدنيا: "وترجونَ من اللهِ ما لا يرجون".

في المثالِ الآخَرِ، فإنَّ من يتعلَّقُ بالأشياءِ تكونُ نفسُه خائفةً متردِّدةً مرتابةً، ولو نظرنا في الأدواتِ التي يستغلَّها المجرمون والمخابراتُ لابتزازِ النَّاسِ لوجدنا أنَّ مداخلهم في ذلك هو ما تتعلَّق به نفوسُ النَّاس وتضعف إرادتهم خضوعاً له، وبذلك كان الخوفُ هو عدَّةُ الشيطانِ في الإيقاعِ بالنَّاس: "إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" (آل عمران: 175).

علينا أن نعيد النظرَ في مفهومِ الحريَّة! ليست الحريَّة هي الانفلاتَ العبثيّ من أيِّ قيودٍ والتزاماتٍ والإفراطَ في ملاحقة شهواتِ النَّفسِ، فهذا ما يناقِضُه قانونُ الوجودِ، إنَّما الحرية هي الانتصارُ على النفسِ وتحريرُ الإرادةِ، والحالة الوحيدة التي يتحرَّر بها الإنسانُ حقَّا هي العبودية لله، لأنَّها تجعله أقوى من رغبات نفسِه وأقدرَ على تطويعِ هواه، وتعطيه القدرةَ على التَّسامي والارتقاء.

twitter.com/aburtema